"داعش" يحتفل برأس السنة

"داعش" يحتفل برأس السنة
الرابط المختصر

ساعات قليلة وينقضي عام، ويبدأ آخر. لكن هذا مجرد تتابع للأرقام لا أكثر، فالعام المنصرم لم يقطع مع سوابقه، ولم يترك وراءه أية فرص للتفاؤل بشأن لاحقه، ما يجعل الفارق بين العامين (المنقضي والجديد) مجرد تبديل في الأرقام، لا يحمل أي تبدل بالأزمان.

 

ذلك واضح على صعيد الدول والحكومات، وعلى مستوى الوقائع والأحداث؛ فالعالم الذي دخل في أزمة منذ العام 2008، لا يزال على ما يبدو يدور في دوائرها، ويغرق فيها. وليس بوسع أي أحد أن يدعي أن ثمة جديد في العام الجديد، وأن الأعوام منذ ذلك الحين لم تكن سوى كابوساً واحداً متصلاً، لا ينتهي، وهذه حقيقة تنطبق على العالم بأكمله.

 

دورة الأزمات السياسية والاقتصادية الحادة، ونُذر الحرب الكبرى والحروب الأهلية الطاحنة، والانهيارات غير المسبوقة في منظومة القيم الأساسية، تشد العالم إلى الوراء، نحو عصور ما قبل الدولة. والانطباع العام أن النظام العالمي (الرأسمالي) لم يعد يقوى على السير بالبشرية أية خطوات للأمام، بل هو لم يعد قادراً على تأمين الحفاظ على نفسه من دون "تصفيات" دموية واسعة النطاق.

 

وبالمقابل، فإن هذا كله يحدث في وقت يفتقر فيه العالم إلى مشروع بديل، ما ينذر بالفوضى العالمية الشاملة، التي قد يجدر بنا ربطها بفكرة المحافظين الجدد حول "الفوضى الخلاقة"، كأداة وأسلوب للتعامل مع الأفق المسدود الذي يعيشه النظام العالمي، مع فارق أن هذه الفكرة كانت طرحت في الأساس باعتبارها أسلوباً لمواجهة حالات موضعية، في هذه البقعة أو تلك من العالم، بينما تبرز اليوم كأسلوب للتعامل الشامل مع الأزمة العالمية ككل.

 

بالطبع، لم يأت المحافظون الجدد بما هو غريب وجديد على الرأسمالية في ذروة توحشها، ويمكن الوقوع على أصل فكرتهم في الفكرة "الاقتصادية" القائلة بالاحتكام للسوق، والثقة بقدرته على خلق "نظام" من رحم الفوضى المطلقة. غير أن علينا في الأثناء أن نتذكر أن هذا المبدأ، الذي يتسبب بالعادة في مجال الاقتصاد بالدمار الشامل لقطاعات اقتصادية حيوية وإبادة شاملة لشرائح اجتماعية واسعة، يقود في السياسة إلى حروب وويلات تسحق شعوباً بأكملها.

 

قد يجد البعض صعوبة في تصديق العلاقة المباشرة ما بين الولايات المتحدة، قائدة النظام العالمي، والمجموعات الإرهابية المتطرفة التي تتكاثر وتتوسع مثل الفطر؛ لكن يمكنهم بلا شك ملاحظة "المصلحة التاريخية" في فتح المجال أمام هذه المجموعات للتكاثر والتوالد والإمساك بزمام المبادرة على الأرض. ويمكنهم انطلاقاً من هنا الانتباه إلى آلاف "داعش" القليلة التي تخوض حرباً على جبهات متنوعة، وتواجه تحالفاً دولياً، لا تجد عوائق حقيقية أمام التمدد والتوسع، والمحافظة على استمراريتها.

 

لقد انكشفت الحرب الطويلة في الشيشان عن إرادات متعددة في موسكو وخارجها لإدامة الحرب. بل أن الحقائق التي ظهرت في السنوات الأخيرة، كشفت عن أن إدارة الرئيس الروسي السابق، بوريس يلتسن، كانت تعمل على خطين: الأول، إدامة حياة المجموعات المسلحة في الشيشان، وتعزيز قدرتها، ومنع ظهور أية اتجاهات تسووية في صفوفها. والثاني، شن الحملات العسكرية الواحدة تلك الأخرى على تلك المجموعات.

 

وبالمنطق ذاته، لا تناقض بين دعم "داعش" وتعزيز قدراته ووجوده، وتشكيل تحالف دولي لمواجهته في الوقت نفسه؛ فالحديث لا يدور حول مستقبل هذا التنظيم (تحكيمه وتمكينه، أو القضاء عليه) بل في ضمان قدرته على أداء دوره التدميري في خلخلة استقرار المنطقة، بل خلخلة أشكال الوجود التقليدية فيها.

 

إلى أين يقود ذلك؟ يراهن ويخشى الكثيرون أن يتمدد “داعش” أكثر من ذلك، وتواصل كما تفعل اليوم فعلاً تحقيق “انجازات” على الأرض لم يحلم بتحقيقها تنظيم “القاعدة” نفسه، لكنهم يطمئنون أنفسهم ويركنون إلى أن “داعش” التنظيم سيتلاشى فور أداء مهمته. وهذا صحيح. بل أن المصيبة تكمن في ذلك، فالواقع الذي يسعى النظام العالمي ترسيخه في بلادنا باستخدام هذا التنظيم هو أكثر “داعشية” من “داعش” نفسه.

 

في سياق هذا المشهد الأسود، يصبح توالي الأعوام مجرد تتابع في الأرقام، بينما الكابوس الطويل الذي نعيشه منذ العام 2008، لا يزال مستمراً، ويتواصل بـ"سلاسة".

 

إلى هنا، يمكن لـ”داعش” وحده، ودوناً عن سواها، وخلافاً لنا جميعاً، أن يحتفل بالعام الجديد، معدداً إنجازات عام مضى!

 

ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.