كثيراً ما أمضي وقتاً أقلّب فيه صفحات وصفحات من دوريات قديمة، مستقصياً باحثاً عن مسألة ما يُثار سِجالٌ حولها الآن، علّني أعثر على جذرها الأول، أو ما قيل عنها قبل عشرات السنين. نعم؛ ففي تلك الدوريات مُصْفَرَّة الورق مجالات رحبة للاكتشاف والإمساك بجذر عديد الموضوعات التي يجهل مناقشوها اليوم أصولها. في الأكداس المرتبة داخل مكتبتي، في الأعداد المنسيّة التي أغبطُ نفسي لاحتفاظي بها، والتي يناسبها تسمية "الأرشيف" – بمعنىً معيّن – تكمن كنوزٌ ولُقى نادراً ما نجدها (أو حتّى آثارها المعرفية) في دوريات اليوم ومجلاته.
تبدأ حالة البحث والاستقصاء مسبوقة بغاية محددة أعرفها تماماً، غير أنني كلّما مضيت بالتقليب والفرز، أجدني ابتعدتُ تدريجياً عن تلك الغاية أو الهدف، وتشعبتُ بدافع الفضول باتجاهات لم تكن خطرت لي منذ سنين وسنين! ولا يقتصر الأمر على هذا؛ إذ تعيدني الصفحات المتقلبة بين يدي إلى ما كنتُ أنا في تاريخ صدورها: تعيدني إلى ما كنتُه وقتذاك إما بقراءتي لتعليقاتي المدونة على هوامش الصفحات، أو تحديقي بالصور العتيقة العاملة على بثّ الحيوية لذكريات وحكايات وأشخاص تلك الفترة. أجدني في "تفضيلاتي"، أو لنقل: ما كان يشكّل سُلَّم أولوياتي! أتوقف قليلاً وأسهمُ متأملاً كيف يجرفنا نهرُ الزمن نحو ضِفافٍ ما كانت ضمن مقاصدنا. ثم أراني أفكّر: ماذا كنتُ أريد أن أصبحَ، وما الذي أصبحتُ عليه؟
الأرشيف عند النبش فيه خطير، بهذا المعنى ومعانٍ أخرى أيضاً، لأنه بقدر ما يعيدنا إلى لحظاتٍ نائية عنا ومنسيّة؛ فإنه يفضح قصور رؤيتنا للعالم عندما يُظهر أنّ كثيراً مما كنا نضعه على هامش اهتماماتنا بات اليوم محور حياتنا غير المكتمل! موضوعات أكلَت أوقاتاً من إعمارنا نفكّر بها لنكتشف، ربما بعد فوات الأوان للبعض منا، أنّ ما أهملناه في ذاك الوقت صرنا بأمسّ الحاجة للتدقيق فيه الآن!
إنّ تقليب أوراق "الأرشيف" يماثل إعادة سرد حكايات أعمارنا، والضحك منها أو عليها.
لِمَ لا نقول الكلام الأدقّ؟ لِم لا نقول: الضحك منا وعلينا؟
يا لهذا الأرشيف من كائن خطير ينتظر مَن يفتحه ليسارع، من فوره، بالانفجار في وجهه، كأي طرد ملغوم أرسله زمنٌ متآمر!
هذا أحد أوجه الأرشيف إذا ما قمنا بـ"التحرش" بأوراقه.
هنالك وجه آخر أكثر إثارة لأن نتوقف عنده ومساءلة أنفسنا أولاً، ومساءلة سوانا، وخاصة كثرة الواهمين بخلود اللحظات الراهنة التي يعيشون "أمجادها"! – وبالمناسبة: هنالك أعداد لا تُحصى من هؤلاء الواهمين، يجدر بنا دفعهم لقراءة ما يلي:
لا تقتصر أوراق الأرشيف، وعلى وجه التحديد تلك الدوريات القديمة من مجلات وملاحق متخصصة، أسبوعية وشهرية، على موضوعات وقضايا وحوارات تنتسب لأوقات صدورها. فهي تشتمل، كذلك، على وجوه وأسماء وشخصيات شكّلَت جزءاً من الرأي العام – أو كانت، بسبب "أحجامها وأهميتها وشهرتها"، من "اللوازم الضرورية" في استكمال المشهد – فكرياً كان أو ثقافياً أدبياً ذاك المشهد!عندها نضطر لأن نتوقف ونقرأ كلاماً "كبيراً". ولكونه هكذا، "تتزغلل" عيوننا باقتباسات من هذا الكلام الكبير وجعلها عناوين فرعية ومحطّات ينبغي علينا، كقرّاء ذاك الزمن، اعتبارها بمثابة الحِكَم المستخلصة من أصحاب تجارب استثنائية!
لا بأس.
ولا تبخل علينا أوراق الأرشيف بعدد معقول مما يستحق التوثيق، من أجل إدامته لأطول وقت يمكن للذاكرة الاحتفاظ به، إلى جوار عدد أكبر بكثير جدير بالرثاء.. إنْ لم نكن قُساة فنقول: جديرٌ بالذهاب إلى جحيم النسيان التام! هؤلاء كانوا النجوم، والأبطال، وبؤر الإنارة والاستنارة، والمراجع الموثوقة، وصانعي الرأي، وطَبَّاخي التذوق الفني، ومُشَرِّحي النصوص الأدبية، وواضعي المناهج النقدية وأساتذة مدارسها، إلخ. كلّ هؤلاء الكُثر، المحتلين لأوراق الأرشيف العائد لزمن أمجادهم، باتوا اليوم نسياً منسياً، ولم يتبق من "إنجازاتهم" العظيمة إلّا رائحة أوراق بدأت تطقطق، وتتكسر إذا ما قلّبتها برعونة، ثم تتفتت متحللة.. كأيّ جثة!
هذا هو الوجه الثاني من أوجه الأرشيف: الوجه اللئيم، إذ يفضح كل ما هو مصنوع "على الموضة" أو "بحسب "القياس"، والخارج من تعبئة تكتلات بُنيت بشروط المرحلة بهياجها الشعبوي وزالَ بزوالها.
ثمّة قَوْل للياباني حائز جائزة نوبل للآداب 1968، يوكيو ميشيما:
"البشر صنفان: صنف يتذكّر، وصنف يتذكّره الآخرون."
ونحن، على ضوء هذا القول، نجدنا نقول بدورنا إننا لسنا مُجْبَرين، بوصفنا الـ" الآخرون"، بتذكّر هؤلاء المصنوعين. أبداً. غير أنّ من حقنا وواجبنا الأخلاقي أن نتذكّر أوراق الأرشيف، ففيها الشهادة الشاهدة على زمنٍ ينبغي، عند استعادته، أن يخضع للنقد العقلي الجَسور الذي لا يهاب ظلال الماضي وأشباحه.
إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.