"خطة مواجهة التطرف":  أوهام النظام

"خطة مواجهة التطرف":  أوهام النظام
الرابط المختصر

للمرة الألف يسقط النظام الأردني في بحر الإنشاء الذي تضمنته "الخطة الوطنية لمواجهة التطرف"؛ إنشاء مكرور عن "إسلام معتدل" لا نجد له تعريفاً في نصّها إلاّ بضعة جمل فضفاضة تصفه بـ"دين التسامح والاعتدال" فيما بات يعرف القاصي والداني بأن منظومة التحريم والتحليل لدى داعش تتماثل مع نظيرتها عند المؤسسة الدينية الرسمية في الأردن باختلافات طفيفة.

ويصرّ مسؤولون رسميون على أن "الخطة الوطنية "مطبّقة على أرض الواقع ضمن جداول زمنية محددة، ووفقاً لوثيقة الإستراتيجية التي أعدّتها الحكومة قبل عامين"، ولا يوضحون للمواطنين السبب الحقيقي وراء إخفائها عامين متتالين حتى كُشف عنها منذ أيام، إن كانت الأمور تسير على ما يرام.

كيف لنا أن ننسى ظهور مفتي المملكة يوم إعدام الشهيد معاذ الكساسبة على شاشة التلفزة "الوطنية"، مستنكراً فعل "حرْق الأسير" وكأن معضلته الأولى بشكْل القتل لا أكثر، وتسابق إعلامنا على استضافة "رموز الإرهاب" من التيار السلفي المنتمي إلى جبهة النصرة وتسويقهم كـ"معتدلين" رغم أن زعيمهم أبو محمد المقدسي لم يذكر داعش في المقابلة الشهيرة معه إلاّ واعتبرها "دولة الإسلام"، ولم يخاطب زعيمها إلاّ بوصفه "خليفةً"، وهذا كله حصل بعد وضع جداول زمنية لتطبيق الخطة المذكورة!

في الفترة نفسها، حيث يجب أن تُطبّق وثيقتهم تواصل دعْم أساتذة يدرسون الشريعة في جامعاتنا، ومنحهم الفضاء العام من مهرجانات وأنشطة لتخريب الشباب الأردني عبر تلقينهم قيم التشدد والتعصب، وحتى لا نذهب بعيداً فإن بعض هؤلاء الأساتذة قد شارك في صوغ هذه الخطة الأخيرة التي ادّعى صنّاعها مكافحة التطرف.

الإنشاء الرديء يبتدئ من مفتتح خطتهم بتلاعب يتقنه رجال الدين لضمان وجودهم وبقائهم عبر الزعم بوجود صورة مثالية للإسلام، وبأن مهمتهم "التاريخية" تكمن بتخليصها من التشوّهات، بينما الحقيقة التي يصرّون على تجاهلها تقول إن أحكام الشرع والشريعة ومقاصدها تم فرضها بعد أكثر من قرن ونصف القرن على بعثة النبي محمد، وبذلك تأسس الكهنوت الإسلامي بفقهاء ومفتين وأئمة، بما يتعارض مع رؤية الإسلام التي تفترض أساساً عدم وجود وساطة بين العبد وربه.

على مدار القرون الماضية حارب هذا الكهنوت، على اختلاف مدارسه وشيوخه، كلّ نزعة عقلانية سعت إلى تخليص المسلمين من احتكارهم لتفسير النص، وقد أُقصي فلاسفة ومفكرون في تاريخنا بعد خوضهم معارك خاسرة انتهت أخيراً إلى انتصار النقل على العقل.

أنشأت المؤسسة الدينية الرسمية (القائمة على النقل) خطابها إلى العامة في الأردن، وبقية الدول العربية، بافتراض وجود "الأمة الإسلامية التي عليها أن تطبّق أحكام الشرع (كرسوها باعتبارها الدين)". وهذه هي فكرة الخلافة ذاتها التي تنادي بها التنظيمات الإرهابية جمعاء، ولم يمتلك أعضاء الكهنوت شجاعة الاعتراف بأن الخلافة لم تتحقق في تاريخنا ولن تتحقق في المستقبل، وأن استمرار الدعوة إليها سيؤول إلى خروجنا تماماً من التاريخ ليس على يد أعدائنا، إنما بسبب اقتتالنا في ما بيننا مذاهباً وطوائف أنتجها كهنة المسلمين لا غيرهم.

كل ما أوردته هذه الخطة حول دور وزارة الأوقاف ودائرة الإفتاء لا طائل منه، بل إنها أضافت إليهما أدواراً، ربما علينا أن نُسعد بأن ضعف الإمكانيات المادية حال دون تنفيذها، والمتمثلة بزيادة مراكز تحفيظ القرآن التي كان سيشرف عليها موظفون بمؤهلات ضعيفة سواء ممن تخرّجوا من كليات الشريعة أو ممن يحملون شهادة الثانوية العامة وما دونها، بدلاً من زيادة عدد المكتبات العامة والمسارح ومراكز تعليم الفنون والموسيقى في بلد مثل الأردن يعدّ الأفقر في تأسيس ذائقة جمالية ومواهب إبداعية وتفكير حر لدى أبنائه.

تحدّث واضعو الخطة في جزئية وقْف تعامل وزارة الثقافة مع جمعية تحفيظ القرآن الكريم إلى حين صدور قرارات قضائية قطعية تؤكد "أن جميع أنشطتها تخضع لإشراف وإدارة ومتابعة وزارة الأوقاف"، ولم ينتبه هؤلاء أن وزارة الثقافة هي من رخّصت وترخص عشرات الجمعيات الدينية التي تنشر التطرف في مطبوعاتها الورقية والإلكترونية، وتتلقى تبرعات بمئات الملايين من حكومات ومؤسسات خليجية، والقضية لا تتعلق بأهداف هذه الجهات وغاياتها فحسب، إنما هل كانت هذه الحكومات لتسمح أن يقوم الأردن بتمويل ودعم جمعيات في بلدانها حتى لو كانت متخصّصة بتعليم الدبكة؟

يسقط النظام، المسؤول الأول عن التطرف، في أوهامه عبر طرحه هكذا خطط وإستراتيجيات تضمن انخراط جميع التيارات الدينية "المعتدلة" فيها لإدامة تقاسمه معها الدولة والمجتمع، بدلاً من تخليه عن سلطة أبوية تقيّد عقولنا وتحرمنا تعددية فكرية حقيقية، وتعطّل التنمية ضمن سياسات تفقر المواطن وتبقيه مكبوتاً عديم الفعالية يخاف المستقبل.

 

محمود منير: كاتب صحافي ومحرر "تكوين" في "عمان نت".