خطباء الجمعة: مجرد مهنة

خطباء الجمعة: مجرد مهنة
الرابط المختصر

خطيب الجمعة موظفٌ يعمل في وزارة الأوقاف أو يتعاقد معها لقاء مبلغ محدد عن كل خطبة يلقيها، لذا يجب تنظيم هذه المهنة مثل غيرها من سائر المهن، من دون تغييب تساؤل أساسي حول جدواها بعد إلغاء "الجامع" ودوره منذ بدايات العصر الأموي وحتى عصرنا الحالي، وتحويله إلى "مسجد" للصلاة والتعبد فقط.

جسّدت خطبة الجمعة دعاية للحكْم منذ تأسيس الدولة الإسلامية، ومثّل النبي محمد والخلفاء الراشدون الأربعة الحاكمَ ووزيرَ إعلامه في شخص واحد (خليفةً وخطيباً في آن)، مع توفير هامش نسبي من المشاركة الشعبية في صنع القرار عبر اجتماع المسلمين وتشاورهم في الجامع.

الخلافة الأموية حوّلت خطباء المساجد إلى ناطقين إعلاميين لتثبيت نظامهم المستبد، الذي لم يقبل التعدد، وللرد على خصومهم حدّ تكفيرهم وشتمهم على المنابر، وبالمقابل فإن جميع الاحتجاجات ضدهم استخدمت المسجد وخطبائه، كذلك، لتعبئة المحتجين ضد ظلم الدولة وإقصائها.

لا أزعم امتلاك الحقيقة، لكن مراجعة عامة للتاريخ تخلص إلى أن الهبّات الشعبية، على مرّ التاريخ الإسلامي، لم تحمل رؤية لتغيير المجتمع، إنما كانت تعبيراً عن تهميش فئة أو طائفة أو قبيلة، وتجسيداً لرغبتها في الوصول إلى السلطة واحتكارها من جديد، كما فعلت في حال نجاح انقلابها العسكري (العباسيون انقلبوا على الأمويين، والمماليك انقلبوا على الأيوبيين.. وهكذا).

ظلّ "المسجد" مرتهناً للأنظمة، تماماً كما وظفته الانقلابات لتحقيق مرادها، ولم يختلف الحال في عصرنا الحديث، إذ تواصل منْح رجال الدين حرية التحرك ضمن قواعدهم الاجتماعية لضمان السيطرة عليها.

لم تتطور مهنة خطيب المسجد، وتنقصنا جرأة القول إنها أضرّت بتطور المجتمعات العربية، فلم يعد مقبولاً تحميلها قداسة وسلطة معرفية في زمن تدعي فيه حكوماتنا العربية أن دساتيرها تمثل العقد الاجتماعي الناظم لمواطنيها، الذين يتساوون في الحقوق والواجبات أمام القانون.

استغلال خطبة الجمعة هو الوجه الآخر لاحتكار الأنظمة السلطة والثروة، ونحن إزاء مهنتين فاسدتين: الخطابة والحكْم، وكل منهما تستمد فسادها من الأخرى؛ الحاكم الذي يريد شرعية دينية لتغطية تجاوزاته، ورجل الدين الذي يرفض التخلي عن نفوذه وامتيازاته.

لا معنى لوجود دولة يردد رجال الدين فيها، ليل نهار، أن الشرائع السماوية تسمو فوق كل القوانين "الوضعية"، وينبغي التذكير بأن "الجامع" الذي أُغتيل في لحظة تاريخية من أجل إدامة الاستبداد لا يمكن إعادته إلاّ ببناء مجتمع حديث يشارك فيه مواطنوه بحكْمه في إطار تجمعهم في نقابات واتحادات عمالية وأحزاب وجميعات.

وزارة الأوقاف الأردنية، التي تدعو أئمة المساجد إلى عدم التدخل في السياسة، هي ذاتها التي تفتح أبواب المسرح الجنوبي في جرش لإقامة "ليالي جرش" بمشاركة دعاة ومشايخ من أقطار عربية عدّة، والدولة بمؤسساتها الحكومية والخاصة هي من ترعى إقحام رجال الدين في شؤونها وإبرازهم في الإعلام والمدارس والجامعات ومراكز الشباب والعمل الخيري وغيره.

لنكاشف أنفسنا ونتذكر جيداً أن خطباء الجمعة مجرد موظفين يؤدون مهنة ينبغي ضبطها وتحديد طبيعة عملها، لأن مسحاً واحداً سيثبت ضعف ثقافتهم ولغتهم وقصور رؤيتهم، ويستطيع كل "متدين" يجيد القراءة والكتابة أن يعثر على ضالته بالعودة إلى الكتب أو حتى بكبسة زر على "غوغل"، ولا يكلّف نفسه عناء الاستماع لخطبةٍ ركيكةٍ وفقيرةٍ في معناها ومبناها.

تزاوج غير شرعي بين "المسجد" و"الحكْم" سيقودنا حتماً إلى مزيد من التفتت والانقسام والتقاتل فيما بيننا حتى آخر قتيل، وآخر فتوى.

 

أضف تعليقك