خصخصة التشدد الديني
يبعث على السخرية الحديث عن تطوير وزارة الأوقاف وتعزيز أدائها في مواجهة التطرف، فربما لم يلحظ أحد أن هذه الوزارة تحديداً قد تمت خصخصتها ضمنياً، في الأردن، من خلال تأسيس جمعيات دينية تنال دعماً من دول خليجية؛ وتتجاوز نفقات جمعية واحدة منها، معروفة الاسم والتمويل، في سنتين فقط، أضعاف ميزانية "الأوقاف"، بحسب تقارير صحفية منشورة.
تأثير هذه الجمعيات يفوق عمل 7000 مسجد، في المملكة، لا يوجد أئمةٌ في 57% منها، ومؤذنون في 35%، ويُفصل عنها التيار الكهربائي بسبب العجز عن تسديد الفواتير المستحقة، وتتكرر التصريحات الرسمية بضرورة تأهيل الأئمة والوعاظ، نظراً إلى أن نسبة وازنة منهم لم تجتز الثانوية العامة أو بالكاد تحمل شهادتها، لكن الحقيقة المؤلمة لا تتمثل بتدني تحصيلهم العلمي، إنما بتشدد أغلبيتهم وتعصبهم ضد مظاهر الانفتاح الاجتماعي والآداب والفنون.
لا تزال السلطة تعتقد أن تحفيظ خطباء الجمعة، أو حتى إجبارهم على، عدم تكفير المسيحيين وبعض المذاهب الإسلامية، مثلاً، سيحلّ المشكلة، متجاهلة أن السواد الأعظم منهم يحرّم الاختلاط في التعليم، والعمل في قطاعات السياحة والبنوك وقروضها، ومهرجانات ومسابقات ووسائل ترفيه وألعاب، والموسيقى والكثير من ثقافة ومعطيات هذا العصر.. الخ.
نحن إزاء تشدد رسمي يشكل عبئاً اقتصادياً واجتماعياً على المجتمع (الأوقاف والإفتاء)، وتشدد خاص يلقى دعماً داخلياً وخارجياً، ورواجاً وانجذاباً لدى فئات الشباب، لأنه يتمدد في جميع الأحياء والمخيمات والقرى والبوادي من خلال مراكز تحفيظ القرآن التي تنال مبالغ رمزية لقاء توفيرها دروساً دينية وأشرطة ومطبوعات ورحلات واحتفالات وجوائز، وتقوم بالرعاية والتكافل الاجتماعي منذ تسعينيات القرن الماضي، في الوقت ذاته الذي تراجعت به الدولة عن دعمها ورعايتها لقطاعات عديدة.
أسوأ نتائج الانسحاب الحكومي كانت في مجالي التعليم والصحة، كمّاً ونوعاً، ومع ذلك تبادر الحكومات المتعاقبة وأفراد من المجتمع إلى بناء 150-200 مسجدٍ سنوياً لا تجد لاحقاً من ينفق عليها، بينما تقدّر تكلفة بناء هذه المساجد بعشرات الملايين كان من الأجدى أن يُبنى وتجهز بها مدارس ومستشفيات ومراكز صحية وكذلك ملاعب ومتنزهات.
لنناقش دور المسجد المنشود، بصراحةٍ ووضوحٍ، سواء في محاربة التشدد الديني أو خلافه، فمنذ فجر الإسلام تأسست الدولة في الجامع من خلال الإشراف والتوجيه على المنبر، وتدريب المقاتلين، والطبابة والتمريض، والتعليم، واجتماع مجلس الحكم.. الخ. ومع مرور الزمن انفصلت كل هذه المؤسسات والأدوار لتستقل بصفتها وعملها، باستثناء دورٍ وحيدٍ التصق بخطيب الجمعة، الذي مارس الوعظ والإرشاد طوال الوقت والدعاية للسلطة كلما تطلب الأمر.
وبلغة أدق، أصبح الخطباء مجرد موظفين يؤدون مهنة، ومن الضروري التساؤل عن دواعي وجودها، لأن مسحاً موسعاً سيثبت ضعف لغتهم وقصور رؤيتهم وتعصبهم، ويستطيع كل "متدين" يجيد القراءة والكتابة أن يعثر على ضالته بالعودة إلى الكتب أو حتى بكبسة زر على "غوغل"، ولا يكلّف نفسه عناء الاستماع إلى خطبةٍ ركيكةٍ وفقيرةٍ في معناها ومبناها، على أن الناس اعتادوا حضورها، رغم تهكمهم الدائم على خطبائها!
بالعودة إلى فاتحة المقال؛ يبدو أن بلداناً عربية، ومنها الأردن، قد استنفذت قدرتها على الاستفادة من المسجد، لأنّ وظيفته التقليدية قد انتهت، غير أن دولاً وأيديولوجيات بعينها ارتأت أن تصمم له وظائف جديدة عبر افتتاح جمعيات دينية يمكنها الوصول إلى كل بيت وعائلة بسهولة، حيث الدولة غيبّت المسرح والسينما والنادي والمكتبة والحديقة والمتحف وجففت وجرّفت كل تعبيرات الحياة المدنية.
"تجفيف" و"تجريف" بوساطة الحكومة و"مشايخها" من جهة، والجمعيات الدينية الخاصة من جهة أخرى، لن ينبت سوى العنف؛ عنفٌ عابر للحدود تستغله التنظيمات الجهادية، وعنفٌ موجه للداخل في الجامعات والمدارس والمجتمع بأسره سببه الأساسي وعنوانه العريض هو إنكار الآخر، ورغم كل ذلك، ثمة إصرار عجيب على هدر الأموال والجهود باستثمار الأدوات ذاتها المنتجة للعنف والتشدد في الحرب على الإرهاب.
- محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.