حَيوَنة الإنسان

حَيوَنة الإنسان

خاص لـ"عمّان نت"

في كتابه "حيونة الإنسان" يقول ممدوح عدوان -سهّل الله عليه- : "نحن لا نتعود يا أبي، إلا إذا مات فينا شيء".

تخيّلوا معي مواطناً أوروبياً سعيداً يمشي في شوارع بلدته. يرى أمامه في البعيد شيئاً ما، مكعبلاً، في منتصف الشارع تماماً. هو لا يقدر على تمييزه. المواطن الأوروبي السعيد يفكّر: لا بد أنه حصان مارق انزنق ولم يستطع إمساك مثانته إلى أن يصل أقرب حمّام ف.. طجّها على الارض.

والآن: تخيلوا معي مواطناً عربياً سعيداً يمشي في شوارع بلدته. يرى أمامه في البعيد شيئاً ما، مكعبلاً في منتصف الشارع تماماً. هو لا يقدر على تمييزه. المواطن العربي السعيد يفكّر: لا بد أنها قطّة شقيّة قصفت عمرها الصغير عجلات سائق مستعجل.

أكملوا. تخيلوا معي أن المواطن العربي السعيد وصل أخيراً إلى هذا الشيء الملقى في منتصف الطريق ووجد أنه رأس بني آدم مقطوع. سوف يصاب بالذعر. سيبكي ويُهستر، سيركض ويفتش عمن يمكنه أن يفعل أي شيء.

وتخيلوا معي أن المواطن الأوروبي السعيد وصل أخيراً إلى هذا الشيء الملقى في منتصف الطريق ووجد أنه رأس بني آدم مقطوع! سيجفل لكن سيتلفت حوله ويحاول أن يجد كاميرا خفية. سيتوقع أنه مقلب. لن يصدّق أن وجود رأس في الطريق شيء ممكن أو واقعي. ثم يدور حول الرأس بكل هدوء ويمشي بحال سبيله مفكّراً بثقالة دم مخرج البرنامج.

لكن.. يا مواطن يا عربي يا سعيد.. لمَ هذا التشاؤم! لماذا تفكر بهذة الطريقة غير السويّة؟ انظر إلى زميلك المواطن الأوروبي السعيد، المواطن السوي المتفائل. لمَ تعتقد أنت أن وجود رأس مقطوعة على قارعة طريق هو أمر ممكن الحدوث؟ لمَ لا تتفاءل بالخير لتجد بدل الرأس المقطوعة.. "كاكة" حصان مثلاً! أمر غاية في الطبيعية والبيئية واللطف. أمر جدير بابتسامة تسامح بدلاً من انهيار عصبي!

المواطن العربي السعيد يرد مُحرجاً: حسناً، آسف. لم أقصد أن أكون منحرفاً لهذه الدرجة، لكنني ذات صباح مشرق وجميل وبينما كنت أتصفح الأخبار على النت رأيت صورة الـ"ثائر" الذي يشوي رأس خصمه على منقل هشّ نشّ، المنقل نفسه الموجود في حديقتي. ذات صباح آخر وأنا مستلق في شرفتي رأيت مقطعاً لطفل يحمل رأساً مقطوعة من شعرها. طفل يشبه ابني الأوسط. آسف، لم أقصد أن أتشاءم، لكن تعرف، هذا الموجود. لم أحضر هذه الرأس المقطوعة من دار أهلي. لقد تعوّدت على هذه المناظر. ألا تقرأ الصحف كل صباح؟ أليست الصفحة الأولى شبيهة تماماً بصفحة الحوادث في الصحف الصفراء؟ لا خبر طبيعي، لا خبر عادي، كلها أخبار غاية في الإثارة، العناوين تصلح أسماء أفلام آكشن، المحتوى يصلح لأقوى أنواع أفلام الرعب.

إذن، أن تسير الحياة وفق هذا المنطق يعني أن تتوقع أكثر الأمور سوريالية بالضبط.

المطلوب منك كمواطن عربي سعيد، ببساطة ودون كثير فزلكات هو: التعوّد على كل ما هو غير منطقي. التعوّد على كل هذا الهراء.

كل مرة تهتف: لا أصدّق! هل يمكن أن يحدث هذا؟! كيف بيعملوا هيك؟! كل مرة تضع علامة تعجب وراء جملتك، اعرفْ أنك ما زلت تلميذا بليداً وما زال أمامك الكثير لتصل درجة "مواطن عربي سعيد".

حين يموت فينا كل أمل، وكل منطق، وكل إيمان، حينها فقط نتعوّد ولا نعود نُصاب بخفقان القلب ولا بالغضب ولا بالدهشة. كل يوم يموت فينا شيء ما. نعتاد ولا نعود نصاب بشيء.

* حيونة الإنسان – اسم كتاب لممدوح عدوان - بشبش الله الطوبة التي تحت دماغه.

أضف تعليقك