حرامٌ في حرامٍ في حرامِ
كتب الزميل محمود منير منذ أيام عن دعوات بعض "الإسلامويين" إلى إلغاء "مهرجان جرش"، مستذكراً ومذكّراً بنجاح هؤلاء بإلغاء "مهرجان القلعة" عام 2013، حيث علا الجمود على فضاء الأفكار واندحر الإبداع أمام سيف الموروث البتّار.
صحيح أن القوم يلعبون لعبةً سياسية المنتهى والمآل، لكن ما كان لهم ذلك لولا مؤازرة الأدبيات الدينية لهم أيَّما مؤازرة.
يكاد "علماء" المسلمين لا يجمعون بقوةٍ على شيء كما يجمعون على تحريم الغناء والموسيقى. فقد نقل ابن عبد البر في كتابه "الكافي في فقه أهل المدينة المالكي" إجماع التابعين ومن قبلهم الصحابة على تحريم الغناء والآلات الموسيقية أو "المعازف" كما يسمّونها. أما ابن القيّم في كتابه "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان"، فقد ذكر من صور الازدراء والتحقير لمن يسمع الغناء أو الموسيقى ما تقشعر له الأبدان. فمن عدم قبول شهادة الفنّانين ومن يستمع لهم، إلى وصفهم بـ"الفسق " و"الخنوثة والدياثة". ويذكر الكتاب ذاته نقلاً عن أبي يوسف تلميذ أبو حنيفة قوله بوجوب اقتحام أي دار يُسمع منها غناء وذلك للنهي عن المنكر لكونه فرض، فالظاهر أن حرمة المنازل لا تحول عنده من القيام بهذا العمل المشين الذي يخالف الأعراف والدساتير والحق في الخصوصية.
ويمضي ابن القيّم في نقل الراجح من أقوال "العلماء" في هذا الصدد إلى أن يرتقي "القمّة" فيقول: "قالوا: ويتقدم إليه الإمام إذا سمع ذلك من داره، فإن أصر حبسه وضربه سياطاً، وإن شاء أزعجه عن داره"، إلهاب الجسد بالسياط والحبس بل حتى الطرد من البيت هي عقوبة من يستمع إلى الغناء فما بالك بمن يغنّي ويعزف، هذا ليس زمانٌ ولّى، ففتوى "دار الإفتاء الأردنية" على تحريم الموسيقى والأغاني ما عدا الضرب بالدُف.
الرسم والتصوير والنحت؛ بدورها لا تقل "فسقاً" و"زندقةً" بل "كفراً" عن الغناء والموسيقى، وحسبك الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه حيث قال: "إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم". يحاول البعض التلطيف من وطأة هذا الحكم بدعوى أن التحريم إنّما يطال فقط "ذوات الأرواح" من البشر والحيوانات، وعلّة ذلك عندهم "عدم التشبه بالخالق"و"درأ شبهة الشرك" بحيث قد يتخذ الناس التماثيل المنحوتة أو اللوحات المرسومة آلهةً من دون الله!
لهذا الحد يعكس الموروث انعداماً مطلقاً للثقة في مضامينه بحيث يخشى على ما رسّخه من عقيدة بشتى السبل من صورة أو تمثال لوجه إنسان أو مجسم كلب أو حتى قرد! هذا يفسّر قيام داعش بتدمير آثار تدمر والموصل، وتحطيم طالبان لتماثيل بوذا، ومحاولة المسلمين الأوائل هدم إيوان كسرى والأهرامات؛ كما ذكرنا في مقالة سابقة بعنوان ، هذا ليس زمانٌ ولّى، ففتوى دار الإفتاء الأردنية على تحريم التصوير إلا ما كان لأغراض تعليمية وما ليس فيه روح، كما أفتى بذلك الشيخ الراحل نوح علي سلمان صاحب الفتوى السابقة.
ماذا بقيَ من مهرجان جرش، الشعر، حسبك أن الأصل في الشعراء أنهم "يتبعهم الغاوون وأنهم في كل وادٍ يهيمون". وحذاري أن تومئ إلى العروض المسرحية، فإن أطعت نفسك الأمارة بالسوء وفعلت، فإنني إحيلك إلى الممثلين والمخرجين "التائبين" الثابتين منهم والعائدين، فما اعتزلوا الفن إلا لحرمته وما عاد بعضهم إليه إلا اتّباعاً "لهواه وضلالته".
لم يتبقَ من "مهرجان جرش" سوى الثقافة والكتب ومناقشتها، وهنا يُطِل العظيم ابن خلدون لينقل لنا في مقدمته ما نصه: "إلا أن المسلمين لما افتتحوا بلاد فارس، وأصابوا من كتبهم وصحائف علومهم مما لا يأخذه الحصر ولما فتحت أرض فارس ووجدوا فيها كتبا كثيرة كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب ليستأذنه في شأنها وتنقيلها للمسلمين. فكتب إليه عمر أن اطرحوها في الماء. فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه و إن يكن ضلالاً فقد كفانا الله. فطرحوها في الماء أو في النار وذهبت علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا"، فإذا ما أُضيف إلى هذه الجريمة التي ارتكبت ضد التراث الإنساني المشترك؛ تحريم الفلسفة من جانب عدد لا يستهان به من "العلماء" وتقييد جانب آخر منهم لإباحة كتابة وقراءة الروايات بشروط شرعية وفقهية أمضى من مقص الرقابة وأشدّ من عصا المُطوِّع، تجلّت خلفية المنادين بتحريم "مهرجان جرش" وكافة أشكال الفن والإبداع.
إنّ أمّةً تخشى الكلمة وتَرهَب الصورة وتُحارِب التماثيل؛ لهي أمّةٌ أعجز من أنّ تنهض بنفسها قبل أن تدعي أنها قد نَهَضَت بغيرها.
القرار بأيدينا، فإمّا أن نتحرر من الماضي ونُقِر بأن ذاك زمانٌ مضى وعهدٌ انقضى أبى من أبى وارتضى من ارتضى، أو أن نستمر في ترديدة سردية العبودية وأنشودة الجمود الأبدية؛ ونقول: حرامٌ في حرامٍ في حرامِ.
مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.