جهنم الكلام

جهنم الكلام

 

بين جهنم الكلام وجنة الصمت، ثمة بستان هادئ وارف اسمه التفكير؛ كانت الحياة ستكون هادئة فيه لولا أنه يقود مباشرة إلى حديقة الكتابة الصغيرة، التي لا يفصلها عنه سياج، وتقود مباشرة إلى جهنم الكلام؛ ولا يندر أن يسلو المرء قليلاً، فلا ينتبه إلا وقد قطع المسافة إلى حيث لا يريد..

هذه إشارة إلى أن الكتابة ليست خيار من يجيدون الصمت.

ومن المدهش أن "التفكير" و"الكلام" و"الكتابة"، كلها، على حد سواء مع الأفعال الشنيعة التي ترتكب كل يوم بسبب انحراف في التفكير، أو بفعل قصور في التعليم والثقافة، تعتبر في لحظات ما غير نادرة جرائم تستوجب التدخل الأمني، وإشغال القضاء، في أغلب بلدان عالمنا..

عالمنا الذي يستيقظ كل يوم على فظائع غير مسبوقة..!

ومن اللافت أن هذه الدهشة التي تسوقها هذه الكلمات تبدو غير مفهومة؛ فالتضييق على "التفكير" و"الكلام" و"الكتابة"، طريق معبدة توصل مباشرة إلى جحيم الأقعال العمياء، وتحويل عامة الناس إلى "دهماء" منقادة، يجتذبها الظلام، ويأسرها الهوس بالبشاعة، ويأخذها التطرف الأسود. إذ من المفروغ منه أن غياب "التفكير" والقصور في التعليم والثقافة يقودان إلى سلطة النص الحرفية المطلقة، التي تخلق عبادة "وثنية" للمفردات، وتجعلها كاملة مطلقة، لا تحتاج إلى سياقها، وحرة من شيفراتها الثقافية.

لذا، فالسؤال حول كيف يمكن لمرء أن يصبح "داعشياً" ليس بتلك الصعوبة. يكفي أن نستذكر العلاقة الأمنية الشائعة اليوم، بطريقة غير مسبوقة، مع "التفكير" و"الكلام" و"الكتابة"، مقرونة بالسياسات الاقتصادية التي تفرضها المؤسسات المالية العالمية، مضافاً إليها بعض المقاولات الأمنية التي توفرها الشركات الأمنية الخاصة، التي هي أذرع لأجهزة الاستخبارات تناط بها المهمات السوداء.

ومن المذهل، إن وهم الحرية الرائج اليوم، أكثر خطراً على المجتمعات مما تمثله الحرية نفسها من خطر على السلطات. وفي عالم تنهار فيه المجتمعات اليوم، وتتحصن فيه السلطات بالأمن و"التمثيليات" الديمقراطية المفرغة من مضمونها، تنهار الدول، بمعناها الحقيقي، ولا يبقى منها سوى الهياكل المافياوية، التي لا تختلف عن المجموعات الإرهابية المتطرفة سوى بطبيعاها النظامية، وثقافتها المدنية، وأجهزتها العصرية: القوانين والتشريعات والأنظمة الحديثة.

المؤسف هنا، أن فورة الإرهاب والظلامية ليست مجرد سقطة تاريخية طارئة؛ إنما هي خيار إستراتيجي، واستثمار ضخم، يوظف فيه النظام العالمي كل مدخراته، ليتمكن من الانقلاب على مكتسبات القرن العشرين، والتحرر من الثقافة التي فرضها.

ومن المؤكد هنا، أن هذه الفورة لم تأخذ بالصدفة طبيعتها العالمية، بل هي بالذات تأتي من الطبيعة العالمية لوظيفتها ومهماتها. وبالتأكيد، ليس مخطئاً من يعتقد أننا نشهد اليوم، في صورة هذه الفورة الإرهابية الظلامية، فصول الحرب العالمية الثالثة؛ على الأقل لأن الإستراتيجيين العسكريين يتحدثون منذ وقت عن "الجيل الرابع من الحروب"، الذي فيه الإرهاب والجيوش النظامية وغير النظامية وأنواع الميليشيات المسلحة والإعلامية، والإجراءات السياسية والاقتصادية، وشيطنة الأنظمة، وتحشيد الجماهير المضللة، والسيطرة على العقول وشرائها، واستخدام البشائع وغيرها..

هذا الجيل من الحروب، الذي تديره وتنظمه، الشركات الأمنية الخاصة..

وبالتالي، ليس من المفهوم أن عمليات مكافحة الإرهاب لا تمس من قريب ولا بعيد الشركات الأمنية الخاصة، المقاول الأمني الحصري الذي يتحرك في أروقة الظلام، ويوفر ميليشيات المرتزقة للعمليات السوداء، وينشئ المجموعات الإرهابية بأنواعها، ويدير المتطرفين حول العالم..

من باب أولى السعي لتجريم هذه الشركات – المنظمات، ووضعها على قوائم الإرهاب!

ولكن، نحن في يوم فيه الكلام جحيم، والصمت نعيم. وحينما يصبح الكلام جحيماً، والصمت نعيماً، يكون العالم قد دخل في جهنم فعلاً، ولا أمل له بالخروج منه قريباً..

ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.

أضف تعليقك