جردة حساب سنوية
أيام معدودات تفصلنا عن العام الجديد، وقد نتفق جميعا بأننا نودع عاما لم نشهد له مثيل على الأقل خلال عقود فائتة من حيث الحروب والصراعات، بدأت ولا تزال قائمة خلال هذا العام ويتوقع لها أن تستمر لفترات اطول.
فالعالم، تهيمن عليه صراعات مستعصية على نحو متزايد وعنف مسلح، بغض النظر عن الدوافع المعقدة وتأثيراتها عالميا، ناهيك عن تفاقم مشاكل تغير المناخ وفقا لتقديرات المعهد الدولي بالاضافة إلى فيروسات ومتحورات جديدة ومجهولة المصدر أحيانا.
الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، أكد إن المجالات الجديدة المحتملة للصراع وأسلحة الحرب ستخلق طرقا جديدة يمكن للإنسانية من خلالها إبادة نفسها وان الصراعات أصبحت أكثر تعقيدا وفتكا وأصعب في الحل. نطاق الحروب والصراعات في عام 2023 اتسع بشدة، ولا تزال الدول تقف مكشوفة أمام مصدقايتها وايمانها بأن حقوق الانسان هي حزمة واحدة، وما الّم في منطقتنا تحديدا ما هو الا اعادة توازنات جديدة في هذه الحقوق. ولعل ازدواجية المعايير التي شهدناها هذا العام أظهرت تلك الصورة القبيحة لدول كانت تتغنى بالحريات وبالمساواة والكرامة، وللأسف فإن الاضطهاد والعنصرية لا يزالان متأصلان في أعماق النفوس.
التهجير والترحيل القسري كان أيضا السمة الأبرز لهذا العام، حيث أسهمت الأحداث في غزة في تهجير اعدادا لا يمكن حصرها على الحدود المصرية، وكان للأرمن نصيب من التهجير الى ارمينيا ، ناهيك عن السودان حيث تشرد الملايين في حرب كانت الأعنف منذ قرن من الزمان. أبعاد هذه التأثيرات سياسيا واقتصاديا واجتماعيا على مستقبل المنطقة العربية والعالم ليست مبشرة في ظل تصاعد الصراعات، إذ إن الحرب لها أبعاد خطيرة ستؤدي إلى احتقان وتفجر الأوضاع في المنطقة على المدى البعيد.
وفي قلب الأزمات العالمية التي ابتليت بها الإنسانية في عامنا الحالي، يوجد هناك افتقار إلى القيادة الأخلاقية في جميع قطاعات المجتمع الإنساني. إن فقدان القيادة الأخلاقية هذا يظهر بوضوح من خلال الكشف المستمر عن التصرفات غير الأخلاقية على جميع المستويات وفي مختلف أنحاء العالم.
قليلون لا يوافقون على أن اللحظة الحالية هي لحظة اضطراب كبير. لكن يمكننا أن ترى علامات الاندماج وكذلك التحلل في التغييرات المتسارعة من كل جانب. هذا يشير إلى عملية انتقال وتحول في جميع أنحاء العالم مما يفسح المجال لأشكال جديدة من التعاون والتآزر.
ففي عالم تقف فيه الأمم ضدّ بعضها البعض وتشيع فيه الهياكل الاجتماعيّة الفرقة بين النّاس في كلّ مكان، لا يمكن إصلاح الخَلَل الهائل في الشّؤون الإنسانيّة الرّاهنة عن طريق تسوية الصّراعات الخاصّة والخلافات المُعيَّنة القائمة بين الدّول. لقد أصبح من الواجب إِيجاد إطارٍ عالميّ حقيقي واعتمادُه لإصلاح الخلل.
أَنَّ إِنهاء الحروب والقضاء عليها ليس مُجرد إِبرام مُعاهدات، أو توقيع اتِّفاقيَّات. إِنَّ المَهمة معقَّدة تتطلَّب مُستوىً جديداً من الالتزام بحلّ قضايا لا يُرْبَط عادةً بينها وبين موضوع البحث عن السّلام. ففكرة الأَمن الجماعي لا تتحقق إِذا كان أساسُها الوحيد الاتِّفاقات السّياسيّة. كما ان التّحدِّي الأَساسي الذي يُواجِهنا هو وجوب السمُوِّ بإطار التَّعامُل إِلى مستوى التّقيُّد والمُثُل بشَكْل يَتَميز عن أُسْلوب الإِذعان للأَمر الواقع.
البشرية تحتاج الان لتغييرات عضوية في بُنية المجتمع الراهن، فبالاضافة إلى الاحتياج الضروري بإقامة عالم متّحد في منظوماته وتطلعاته، وفي تجارته ونظمه الاقتصادية، ولكنه أيضاً قادر على احتواء ما لا نهاية له من التعددية القومية والأعراق المختلفة .
ويبقى السؤال : هل سنثبت انه مهما بلغت صعوبة الامور في الوقت الحاضر فان الانسانية ستعبر نفق هذه المحنة في نهاية المطاف وقد اكتسبت رؤية اوضح وتقديرا اعمق لوحدتها المتأصلة وترابطها المتبادل؟