جرائم لا يفصل فيها القضاء
تبدو حادثة مقتل مواطنٍ أردني على يد ابنه، الذي يعاني أمراضاً نفسية، قد انتزعت من عمل روائي أو سينمائي يستطيع كل قارئ أن يتخيل تفاصيله كاملةً، بحسب حجم اضطراب علاقته بأبيه –أبوة قائمة على مزيجٌ من الخضوع التام والرغبة الدائمة في الانقلاب عليها- ويقارنها بنسختها في الواقع، حيث استخدم القاتل المريض حجراً وضرَب به رأس والده وجسده حتى فارق الحياة.
نقاش الواقعة لا صلة له بالتفاصيل الجنائية، وإن منحت المشهد مزيداً من الدراما المثيرة، فالابن يقيم مع أسرته، ولم يقم الأب بنقله إلى مستشفى الفحيص للأمراض العقلية، إلاّ بعد تورطه في إشكال مع أحد المواطنين، مما يعني أن التعامل مع المرض النفسي في مجتمعاتنا ينحصر في فكرة "ضبط" سلوكياته لا رعايته ومتابعة حالته، إذ لم ينتبه أحد إلى أنه سيقدم على القتل عمّا قريب!
وعلى ذمة مواقع إخبارية الكترونية، تقتات أغلبها على الشائعات، فإن الابن أفلت من تكبيل رجلي شرطة يرافقونه مع والده إلى المستشفى، وما أن فك قيوده حتى انهال ضرباً بحجرٍ لينهي به حياة والده من دون أن يمنعه أحد الحاضرين، وهو ما يحيلنا إلى أرقام وإحصائيات تشير إلى أن 70% من جرائم القتل ترتكب لأسباب عائلية في الأردن.
وعليه، لا يبدو الفصْل في هذه الجرائم من خلال القضاء حلاً جذرياً، فالعدالة هنا تمتلك جزءاً من الحقيقة وتبني حكمها بناءً عليه، بينما يتوارى في سياقها معطيات وأسباب خافية لمشاكل اجتماعية تحتاج دراسات أوفى ومعالجة منظمة ومدروسة، وسيؤدي السكوت عنها وتأجيل حلّها إلى تعقيدها بالنظر إلى ترابطها مع مشاكل اقتصادية وسياسية كذلك.
لعّل جريمة أبو علندا منذ أيام تعد مثالاً آخر، أكثر وضوحاً، على أن القاتل ربما يكون ضحيةً، إذا حكّمنا رؤية أكثر شمولية وإحاطة للتعامل مع اضطرابات المجتمع، فالزوجة قتلت زوجها، الذي يتعاطى المخدرات، ويضربها ويسيئ معاملتها باستمرار، ما جعلها تغامر بزواج عمره 25 عاماً وأبناء ثمانية سيحرمون منها، وتقوم بفعلتها المدانة طبعاً.
لا تسّوق هذه البينات مسوغاً لجرائم تزهق أرواحاً، لكنها تستدعي جدية ومسوؤلية في تحديد موجبات حدوثها، واستقراء دلالاتها المستقبلية، خاصة إذا ما علمنا أن أبناء القاتلة تعاطفوا معها وحاولوا إخفاء جثة والدهم إلى أن بلّغوا الجهات المختصة بعد مرور ثلاثة أيام على وقوع الجريمة، ولا يعد ذلك تعاطفاً عابراً، إنما هو شاهدٌ على تقديرهم مأساة أمّهم، وخوفهم من فقدها في حال تنفيذ حكم العدالة بحقها.
تعليقات بعض القراء على هذه الجرائم وغيرها لا تعدو كونها مجرد هستيريا جماعية تعبر عن ردة فعل غرائزية تدين القاتل ولا تلتفت إلى أنه قُتل ألف مرة قبل قيامه بجريمته، وهم يستبدلون صيحات طلب الثأر لدى أجدادنا، من خلال طقوسهم البدائية، بكتابات يُفضّل عدم نشرها لو أردنا البدء في مواجهة أزماتنا.
الجريمة ليست موضوع دراسة تبرع فيه الكوادر القضائية والأمنية فقط، فلا يقاس تقدّم المجتمعات الحديثة في قدرة أجهزتها على الإمساك بالمجرمين، بأسرع وقت ممكن، إنما بالسعي للحد من معدلات الجريمة، واستيعاب العوامل الأساسية وراء حدوثها.
يتفق علماء الاجتماع، الذين يقدمون بحوثاً جادة -ولا يستغفلون الناس بالقول إن غياب الوازع الديني هو سبب كل كوارثنا- بأن ضعف المشاركة السياسية وفقدان العدالة الاجتماعية، في دول تعتمد الزبائنية علاقة مع مواطنيها، وتراجع الوضع الاقتصادي بانتشار الفقر والبطالة، وتدهور مستوى التعليم، هي أهم مسببات الجريمة في بلادنا.
الذكورة الطافحة فينا تسعى إلى حجب هذه المسببات، والتشويش على الطروحات العقلانية في مقاربة مشكلاتنا، وامتلاك الجرأة في نقد الذات والأخطاء، وهي تنجح في تحريف الواقع عبر فائض مزاودتها بادعاء المحافظة على الشرف والأخلاق.
- محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.