ثقة غائبة

ثقة غائبة

 

يتعرّض واحد من الاستنتاجات العاجلة من نتائج الاستفتاء البريطاني حول أوروبا إلى الثقة الشعبية الغائبة بالسياسيين والسياسات والأنظمة السياسية نفسها؛ ورغم أن الاستفتاء حدث في بريطانيا، إلا أن قادة أوروبيين عديدين مقتنعين أن هذا الاستنتاج يسري، كذلك، على العلاقة بين شعوبهم وبينهم، وبين عموم الشعوب الأوروبية وقياداتها أيضاً. ومن هنا، لم تخل تعليقات قادة أوروبا من التأكيد على مسؤوليتهم في استعادة ثقة شعوبهم الغائبة، بهم وبمنظومة الاتحاد الأوروبي.

وبالمقابل، يمكن لحكومة جديدة في بلادنا، لم بعتد وزراؤها الجلوس على كراسيهم بعد، أن تفترض أن شعبها ملزم بالثقة بها وبالنظام السياسي تلقائياً، ومهما فعلت، كجزء ملزم من معادلة "الولاء والانتماء" التي تسير في اتجاه واحد، معكوس. بمعنى أنها تفترض أن سؤال الثقة يدور حصراً حول "ولاء" الشعب لها هي، لا حول ولائها هي لشعبها.

وفي ملاحظة ثانية، لا يكلّ المسؤولون من الحديث عن "الخيارات الموضوعية والضرورية" بينما هم يعقدون مع المؤسسات المالية الدولية، كارثية السمعة، الاتفاقات التي تمسّ حياة الشرائح الأوسع والفقيرة من الشعب، ولكنهم في المقابل لا يقبلون بالمطلق ملاحظة الظروف القاهرة التي تطحن المعدمين ومئات الآلاف من الشباب المحبوسين في زنازين البطالة المغلقة بإحكام.

وأكثر من ذلك، يتصرّفون على الدوام، مع كل حزمة جديدة من الإجراءات الاقتصادية المتعسفة التي يُنتدبون لتمريرها، كما لو أنهم هم من يضحي، ومن يقدّم الحلول والعلاجات للمشاكل المزمنة التي تسبّب بها الشعب المعدم بنفسه. في حين أن الأزمات المتلاحقة، كلّها ومن دون استثناء، نجمت عن سياسات فرضتها حكومات سابقة، يمكن أن يكون جلّ أعضائها مشاركين في الحكومات الجديدة.

وتطالب هذه الحكومات الشعب بتفهم هذه الإجراءات و"ضرورتها"، بينما هي لا تبدي أقل قدر من الاستعداد لتفهّم الواقع القاسي والمرير الذي يعيشه شعبها وأخذه بعين الاعتبار.

وتصرّ هذه الحكومات على ملاحظة سلطاتها "القانونية" واستخدامها، ولكنها تتجاهل تماماً أنها على مدار عقود أفرزت واقعاً لا يحتكم إلى القانون، ولكن إلى الشعور بالقهر. ويصل بها ذلك التجاهل إلى درجة الاحتكاك العنيف بالشارع، والاستقواء عليه، والوصول بالعلاقة معه إلى حائط مسدود.

وماذا بعد؟

إن من لا يدرك أولوية الشعور بالقهر، ويحاول التعامل معه كما لو أنه مجرد تظاهرة عابثة يسيّرها مشاغبون مرفهون لا همّ لهم إلا التسكّع والمناكفة، سيصل إلى نتائج تفاجئه وتصدمه؛ مفاجأة وصدمة من يعبث بقنبلة موقوته، بينما يظنّها "لعبة أتاري"!

تحتاج الدولة إلى عقود طويلة من الاستثمار في رفاهية شعبها لتتحول إلى وطن عزيز؛ ولكن الوطن نفسه يحتاج إلى حكومة واحدة، من نوعية مرّ علينا منها الكثير، ليخسر نفسه ومواطنيه!

 

ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.

أضف تعليقك