ثقافة تنقصها السخرية
مهما أفرط التربويون والوعاظ في تقريعنا حين نلقي بمزحةٍ في وجه رصانتهم، سيبقى هذا الخروج عن الأدب –العفوي منه والمتقصد- يُنتج أهم الإبداعات الأدبية، والمواقف الفلسفية، والنقد الاجتماعي والثقافي، وينجح القليل منه في تفكيك مفهوم السلطة وقمعها عبر العصور.
يُسرف كثيرون منّا في الاعتراض على مزج الهزل بالجد، بذريعة انقاصه للهيبة والاحترام. لذا ينبغي تذكيرهم بأن "التأدب" لا يعني إلاّ صاحبه، وأن الأخلاق تختبرها النزاهة في توظيف المال والسلطة والمعرفة لا كثرة التهذيب.
وعلينا التنويه بأن استخدام الدعابة أو تلقيها يتطلب تحديثاً لأساليب التربية ومناهج التعليم، لعلها تطوّر مهارات الساخرين، وتحسّن أيضاً ذائقة جمهورهم.
لن يكون الحل، بالطبع، عبر تدريس طلبتنا أدبيات السخرية الخالدة، بدءاً بالجاحظ وابن المقفع، وليس انتهاء بفولتير وتشيخوف ومارك توين وبرنارد شو، حتى يتوقفوا عن إضاعة وقتهم في قراءة المقالات "الساخرة" في الصحافة العربية، ويبدعوا سخرية تليق بانحدارنا المتواصل على مختلف الأصعدة.
يبدو أن المسألة لا تتعلق بقدرة الأدب والفن والصحافة وكتّابها على الإضحاك، وربما علينا البحث أعمق في أسباب انزياحنا نحو التهكم وغاياته في ثقافتنا العربية، فلطالما أُتهم بعض فناني الكوميديا العرب بالتناقض والازدواجية نتيجة انتقادهم الشرس للحكْم، في أعمالهم، مقابل تأييدهم المطلق له على أرض الواقع!
علينا مواجهة حقيقة أنّه يندر أن تجد في تراثنا العربي نصاً يسخر صاحبه من حاكم أو وزير، ويعبّر عن موقف جذري تجاه السلطة -وقد لا نعثر عليه أبداً-، فالسخرية عبر تاريخنا المدوّن اتخذت طابع الهجاء أو الاستهزاء أو الاستظراف في سبيل لفت الأنظار إلى معارضٍ يرغب التقرب من السلطان، ومؤيد يسعى إلى "تسلية" تنّفس عن العباد ولا تُغضب الأسياد.
خلاصة تتطلب مزيداً من النبش، لكن المؤرخين يشيرون إلى امتهان الجاحظ الدعاية السياسية لعدد من الخلفاء والأعيان، وأن خلافاته "العابرة" معهم لم تقع بسبب انتقاده لبنية الحكْم وفساده، إنما لإقصائهم له حيناً، وكذلك الأمر مع ابن المقفع، الذي لم يستطع في كتابه الخالد "كليلة ودمنة" أن يصل إلى معايير ثابتة وممنهجة تحكم انتقاداته الجريئة التي جاءت على لسان الحيوان.
الجرأة في القول خلال قرون خلت لم تبن معارضةً قادرة على التغيير، وأبقت ثقافتنا أسيرة لثنائية الظلم والتظلم، وعجزت عن تأسيس منظومة عادلة يتوافق عليها الظالمون والمظلومون، وهي بموازاة ذلك لم تبدع كوميديا ترقى إلى تخليد الإنسان ومعاناته.
لم يتغير شيء رغم تقلب الأزمنة والأحوال، فما زالت الصحف تنشر مقالات ساخرة تنتقد قرارات حكومية أو سلوكيات اجتماعية، ولا ينفك كتّابها –في الوقت نفسه- عن بث نزعاتهم العنصرية، ومعاداتهم للمرأة وقيم الحداثة والتعددية، وانحيازهم للتخلف بحجة الدفاع عن الشرف أو الدين أو الوطن.
يتواطأ الجميع في قصر السخرية على تحويل هموم القارئ إلى مادة للضحك المؤقت والخاطف، ونزعها عن سياقها العام لتغدو حالة فردية يمكن معاينتها من خلال تقصير العبد أو تقصير المسؤول لا باعتبارها أزمة دولة ومجتمع، وهنا يتبيّن دورها "التاريخي" في تثبيت السائد بكل أركانه، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
لا قيمة للنقد في ظل غياب تلك المسافة التي تفصل السلطة عن الفرد، وتفصل كليهما عن النص الذي تكسبه الجماعة قداسة لإخفاء عيوبها ومثالبها، وتحقيق مصالحها، وفي مقدمتها حماية السلطات الحاكمة.
نحتاج هزلاً في مواضع الجد، المزعومة والمتكلفَة، خاصةً أن صيغة المبالغة مزّاح في لغتنا العربية تعني المثمر والمُلوّن، ليمكننا من استكمال الاقتتال على أوطانٍ لصالح إرادات خارجية، ونحتمل في كل عام الاحتفال بمولد زعمائنا والتغني بحكمتهم ورؤاهم الثاقبة!
محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.