تيسير سبول

تيسير سبول
الرابط المختصر

التقيته على باب الحانة ذات الواجهة الزجاجية، كنتُ داخلاً وكان خارجاً، فاستوقفته مرحّباً بحرارةٍ لم تترك له مجالاً إلا أن يتعرف عليّ، رغم أننا لم نلتق أبداً، ولم نتبادل الحديث مطلقاً، فالعالم على عهده لا يجد وسيلةً لتسهيل التنقل عبر الزمن.

قال لي:

-       ها أنت على عهدي بك. لا تزال أنت أنت!

شعرتُ بالإطراء، وحسبته يثني عليّ، ولم يزعجني أن ذلك جاء على سبيل المجاملة؛ بل على العكس أشعرني ذلك بمودته الصافية.

قلت له:

-       لو تسنّى لي أن أكون غيري لوددت أن أكون أنت!

قال لي:

-       لو تسنى لك أن تكون غيرك، لكنتُ أصبحتك منذ وقت!

وشعرتُ بالإطراء، وحسبته يثني عليّ، ولو مجاملة. فأردتُ أن أرد له المجاملة ببوح الأفكار والمشاعر التي أكنّها له منذ أن أصبح كاتبي المفضل. ولكن كان يلزمني الوقت لذلك.

وكانت كأسه لامعةً على المائدة كما يبدو من خلال الواجهة الزجاجية، يسكن الماء في منتصفها.

قلت له:

-       فلندخل لنشرب تلك الكأس.

قال لي:

-       أُدخل واحتسي تلك الكأس.

وكان واضحاً أنه لن يدخل معي. وأربكني أنه يعزف عن استثمار فرصة لقائنا ليسمع الكثير الذي حدث منذ أن أطلق النار على نفسه، في صدغه الأيسر.

قلتُ له:

-       لو تعلم عما يفوتك أن تسألني!

قال لي:

-       لو تعلم عما أجبتني!

وأدركت أن وقتي معه بات أقصر ما يمكن، ففكرت أن أشكره وأنوّه بأفضاله عليّ.

قلت له:

-       أتمنى لو أنك تعلم ما أخذت منك!

قال لي:

-       أتمنى لو أنك تعلم ما منعت عنك!

وانتابني الجزع، فيما بدا لي أنه من الصعب أن أتركه يمضي بلا حديث، ومن دون أن أفضي وأبوح له، ومن غير أن أسمع منه، فقررت أن ألح عليه.

قلت له:

-       فلندخل لنشرب تلك الكأس.

قال لي:

-       أدخل واحتسي تلك الكأس.

وهمّ بالذهاب فاعترضته، وقلت له أنه ما يزال لدينا وقت لبعض الحديث، وفرصة لنتأمل دخول الليل في الصحراء التي يلهبها وهج الشمس على أعتاب القيظ؛ لكنه لم يعرني اهتماماً وخطا يمضي ويبتعد..

هتفت في إثره:

-       إلى أين تتعجل الخروج، ما يزال لديك وقت.

قال دون أن يستدير:

-       أريد أن أدرك موعد الصحيفة اليومية، لكي لا يفوتها أن تنشر خبرها الصغير عني، وعن رصاصتي، وصدغي!

هتفتُ وراءه، وأرسلت صوتي يلاحقه ملتاعاً، ومحذراً.

قلت له:

-       لو كنتَ تعلم إلى أين أنت خارج.

قال لي من دون أن يتوقف:

-       لو كنتَ تعلم إلى أين أنت داخل.

خرج، ودخلتُ. جلستُ على مائدته، وأمضيتُ وقتاً لا أعلمه في مراقبة وتأمل كأسه نصف المليئة، ثم مرّ بائع الصحف فأخذتُ نسخة، وطالعتُ فيها الخبر الصغير المقتضب عنه، وعن رصاصته، وصدغه.

وانتابني شعورٌ بأن عليّ أن أفكر ملياً بمضمون الخبر الصغير المقتضب، الذي سيقرأه هو عني، ذات يوم، في الصحيفة اليومية ذاتها!

هامش: مرّت في الخامس عشر من هذا الشهر الذكرى الحادية والأربعين لانتحار الكاتب الأردني تيسير سبول (15/11/1973).

 

ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.

أضف تعليقك