توابع الاتفاق
فتَح الاتفاق النووي الإيراني، على الفور، بيتين: واحد للأفراح وآخر للعزاء. في الأول، تمت ترجمة الأفراح إلى أهزوجة عن نصر مؤزر. وفي الثاني، تزاحمت صروف الندب والولولة.
وفي الواقع، عالمنا اليوم بعيد عن الانتصارات. واللجوء فيه إلى طاولات مستديرة وغير مستديرة يعني بالضرورة أن كل طرف يقر باستحالة هزيمة غريمه؛ لذا، فإن أهزوجة الانتصار تبقى أهزوجة، بينما الندب والولولة لهما علاقة بـ«بخيبة» أمل أطراف غير واقعية، كانت تعودت أن تنال ما تريد، بالطريقة والحجم الذي تشاء.
من الجهة الأخرى، من المهم هنا ملاحظة أن الاتفاق نفسه، يجعل من أفكار «الساحر» بوتين المستحيلة قريبة من التحقق، ولو على شكل معجزة؛ والتحالف «العجيب الغريب» بين القوى المتصارعة، الذي تحدث عنه أواخر الشهر الماضي في لقاء مع وزير الخارجية السوري، بات أقرب إلى الواقع، على غير رغبة من جميع الأطراف المتصارعة نفسها.
لا يتعلق الأمر باجتراح معجزات، بل بتحقيق الممكن، الذي كان معلقاً ومؤجلاً إلى حين إنجاز الاتفاق النووي؛ وهذا الممكن توالت خطواته الأولى على نحو سريع على الأرض من خلال معطيات تمس توزيع القوى: في اليمن، تقهقر الحوثيين من عدن، وعودة أركان من حكومة هادي إلى المدينة، مع تحول ميداني هناك لصالحها. وفي ما يتعلق بسوريا، ارتأى أحد ما أن لا يجهد نفسه في إقناع أنقرة قبل أن يهديها طعنة من ربيبها المدلل «داعش»، وحينها انفتحت بالفعل طريق تركيا نحو مكافحة من كانت ترفض أن تسميهم إرهابيين، ويصفهم رئيس وزرائها بأنهم مجرد «شباب مسلم غاضب».
بالطبع، حاول الأتراك الذين تم تجريدهم من مشروع «إسلاموي تمددي» كامل، التعويض عن خسارتهم، بضرب الأكراد في سوريا، فانهالت عليهم الاتصالات الأميركية الأوروبية التي ترفع إشارة «قف»، وبالتزامن حاولوا التسويف وتسويق فكرة أن الظرف مناسب للتخلص من الرئيس السوري، أو على الأقل التضييق عليه؛ فجاءهم تذكير أميركي علني: ما اتفقنا عليه هو إنشاء «منطقة خالية من داعش»، واتفاقنا لا يتضمن «منطقة حظر» جوي. أما الرئيس السوري، نفسه، فظروف زحزحته هي في العهدة الروسية، ويمكن الحديث بشأنه مع موسكو فقط!
بمقابل هذا كله، تنضج ظروف لبحث تسوية في سوريا. وإطار هذه التسوية يبقى في العهدة الروسية، التي ستراعي شروطاً وظروفاً وحججاً محلية، تقول إن التسوية تتطلب رؤوساً جديدة في الدول المتصارعة، وإن «التغيير» طال عملياً أهم خصوم سوريا السياسيين، وآخرهم أردوغان يتهيأ للانصراف؛ وأن هذا يجب أن يحصل في سوريا، على أساس أن جميع أطراف الصراع هم جزء منه.
وليس لدى موسكو مشكلة، فهي تتمسك بالرئيس السوري باعتباره ضمانة للاستقرار، لكن إن كانت هناك عملية تقود إلى الاستقرار، وتتضمن آليات تغيير، وتضمن المشاركة التي من شأنها أن تهدئ الوضع السوري، فإنها لن تمانع بتشجيع الرئيس السوري على التزحزح قليلاً،
خطاب الرئيس السوري قبل أيام، الذي تحدث فيه عن الصعوبات التي يواجهها الجيش والتدهور الحاصل في الاقتصاد وخلافه، يقرأ لقاء وزير خارجيته بالرئيس الروسي، ويسعى بالدرجة الأولى إلى وضع مقدمات تهيئ لتغيير في مسارات السياسة السورية في المرحلة المقبلة. مسارات لا ترى في بوتين ساحراً يحقق المعجزات، بل سياسياً يلاحق الممكن!
- ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.