تشويق أردنيّ

تشويق أردنيّ
الرابط المختصر

 

 

لماذا يُعدُّ رحيلُ حكومةٍ، وتكليفُ أخرى أمراً مُشوَّقاً للأردنيين؟ ما الدهشةُ في الحدثِ المُتوقَّع والمألوفِ، لينشغلَ به الشارعُ والإعلامُ منذُ شهور، ويلتقطَ الإشارات البعيدة، وحتى المصادفات لتعيين حكوميّ آخر، داخل التنظيم نفسه، بخلاياه، وشروطه، وأدواته.

 

لم يحدث تغييرٌ حكوميٌّ جوهريٌّ في تاريخ الحياة السياسية الأردنية، باستثناءات قليلة في النصف الثاني من القرن الماضي. النُسَخُ مكرَّرةٌ عن أصلٍ واحد: رئيسُ السلطة التنفيذيّة يُعيّنُ، ويُكلّفُ بتحقيق مُعجزاتٍ استعصت على سابقيه، قبلَ انْ ينتقلَ إلى دائرةٍ أخرى في التنظيم، وينتظرَ دوره مجدداً. دائماً كان توظيفُ رئيس الوزراء والطاقم الوزاريّ، لأجلٍ قصيرٍ ومحدّد، ولمهمةٍ، لا يُكملها، وليسَ مطلوباً منه أنْ يفعل. المحصلة أنّ العمل الحكوميّ يفقدُ التراكم، ويُحبِّذُ ترحيلَ الأزمات.

 

كلُّ عناصر التشويق مفقودة. لم يأتِ رئيسُ حكومة شاب، أو من نخبٍ حزبيةٍ، أو أكاديمية، أو اجتماعية خارج البنية السياسية المتكلّسة من تراكم طبقات البيروقراط، والمال والأعمال، ومعهم أحلام الكهول المتقاعدين، والشطّار الطامحين. لم يُكلّف رئيس وزراء مسيحيّ، على الرغم من شرعيّة ذلك دستوريّاً. لم تُعيّن امرأة على قمة الهرم الحكوميّ، لأجل التسويق الخارجيّ لدى المانحين الغربيين، على الاقل.

 

أيضاً. لا مفاجآت في أيّ تشكيل وزاريّ. القائمةُ يجري تدقيقها جيداً في دوائرَ خبيرة بالحساباتِ الداخلية، وبالحساسيّات، وبالتحالفات التقليدية. وزراءُ يُعبّرون عن ثقل محافظات وعشائر بعينها. آخرون أردنيّون من أصل فلسطينيّ. تمثيلٌ رمزيٌّ للمسيحيين والشركس والشيشان، وللمرأة. أكثريّات وأقليّات، مثلما كان دائماً. المتغيّرُ الوحيدُ حجم الحصص في الكعكة، وكلُّ خطأ في القسمة بين هذه المحافظة، وتلك، تتولاه التعديلاتُ الحكومية، وما أكثرها.

 

الولايةُ العامةُ للحكومة ورئيسها فقدت وظيفتها وملامحها، وحدّدتها التعديلات الدستورية في مسار تصريف الأعمال، وتحمّل التبعات، وليس تولّي المسؤولية، لكنّ الأردنيين لم يفقدوا التشويقَ في متابعة القصة، ويُمسكون خيوطها كافة. من خيط الشائعة، إلى خيوط التسريبات الإعلاميّة، وتداول أسماء المرشحين المحظوظين، وتصنيفهم، وفرزهم، وغربلتهم، إلى صدور القرار الملكيّ، وغالباً تُصيبُ توقعاتهم اسم الرئيس المُعيّن، ونصف تشكيلته.

 

اللافت أنّ الأردنيين - قبل وسائل التواصل الرقميّة - يمتلكون تشبيكاً اجتماعيّاً قويّاً قادراً على الوصول إلى معلومات بالغة الحساسيّة، تُعدُّ من  فئة "سريّ ومكتوم". الموظّفون في الديوان الملكي، وفي الدوائر الأمنية، والحكومية يُحبّون وصف "المصادر المطلعة" التي تسألها الصحافة، وتهمسُ في آذان الناس في المجالس الاجتماعية، وتشاركها الأسرارَ، دليلاً على النفوذ، وتأكيداً للمباهاة، والقرب من مراكز صناعة القرار المُشوِّق جداً.

 

لعلّ التشويقَ في هذا النوع من التداخل الواسع في الشبكة الاجتماعية، وفي تلك السهولة في تناقل الشائعة، والمعلومة، والتوقُّع الدقيق، يُفسِّر إقبال الأردنيين على موقع "فيسبوك" مثالاً، دون غيره من شبكات التواصل، فهو يلائمُ البنية التحتية للشبكة الاجتماعية الواقعيّة في الأردن، علماً أن قاعدة مستخدمي هذه المنصّة في بلادنا تضمّ أكثر من 4.5 مليون حساب، في مقابل 350 ألفاً لمنصّة "تويتر".

 

ومنه، يُمكن ملاحظة أنّ أخبار رحيل الحكومة الحالية، بعد الدورة الاستثنائية لمجلس النوّاب طغى تماماً في الـ"فيسبوك" الأردنيّ، وغيره من وسائل التواصل على خبر محاولة خمسة شبان أردنيين الانتحار من فوق مبنى وزارة الداخلية، فالتشويقُ الآن في ذروته، خصوصاً أنّ "الاستثنائية" ستناقشُ مشروع قانون وحيد، هو "صندوق الاستثمار الأردنيّ" المرتبط بشخصيتين مُرشّحتين لرئاسة الحكومة، قبل الانتخابات النيابية المقبلة، وبعدها.

 

ولا يغيبُ، أنَّ مراسمَ التشكيل الحكوميّ ترفعُ مستوى الحماسةِ الشعبيّة: أداءُ القسم الدستوريّ. الصورةُ الجماعيّة. تُقبُّل التهنئة في رئاسة الوزراء،  يُضافُ إلى ذلك لقبُ "دولته" و "معاليه"، والسيّارةُ الحكومية بسائقها، ثمَّ مسرحية الثقة المطلقة في مجلس النواب، وأكثرُ ما يتوخاهُ هذا الاستهلاكُ للحدث  في المجتمعات الأقلّ انتاجاً، والأكثر اعتماداً على دولة القطاع العام هو تأكيدُ المكانة القَبَليَّة، ومرادفاتها في القطاع الخاص، وطبقة الأثرياء، والانتهازية القادمة من المعارضة.

 

المنصبُ الحكوميُّ، ما يزالُ جاذباً، وجديراً بالسباق، ليسَ من أجلِ المكاسبِ المباشرة، فرواتبُ رؤساء الوزارات والوزراء أقلّ كثيراً من دُخول شبابٍ في العشرينات يعملون في شركات القطاع الخاص. ثمة ما هو "خَيْرٌ وأبقى".  الموقعُ الجديدُ محروسٌ بقوانين تسمحُ بتسمين الثروات، وبالتوسّط للعائلة والعشيرة في التشغيل والاستثمار، وَمَنْ يفوته كثيرُ ذلك، يحظى بلقبٍ بعدَ التقاعد،  ومنصب في الهيئات الحكومية، شبه الخاصة، ويُعاد تأهيله ليكونَ سفيراً، وعضواً في مجلس الأعيان، وعلى مؤسسة الضمان الاجتماعي  تدبيرَ تقاعد مريحٍ يليقُ بمعالي الوزير، من اشتراكات الذين يعملون حتى الستين. الأهم أنَّالاسم سيبقى متداولاً في بورصة العائدين إلى الكراسي.

 

إنهُ التشويقُ الذي لا ينتهي. الضوءُ يظلُّ غامراً على أشباهِ الأبطال، والستارةُ مرفوعة على عماءِ الجمهور..

 

  • باسل رفايعة: صحافيّ أردنيّ، عمل في صحف يومية محلية، وعربية.