تحفيظ القرآن عن ظهر قلب

حول موضوع مراكز تحفيظ القرآن المنتشرة في المملكة، مرة أخرى نسأل، أيهما أهم لتوعية طفل صغير يكاد يفك الخط؟

تحفيظه القرآن عن ظهر قلب؟

أم تفهيمه آيات مختارة وحثه على التفكر بمعانيها؟

طبعاً الأهم هو الفهم والاستيعاب، وليس الصم الجامد والتمرين على مخارج الحروف من الأنف، ولا أصول القلقلة والمد والإدغام وغيرها من الشكليات والصوتيات التي تبتعد عن روح النص ومعناه الحقيقي وتحصر التركيز على حفظ ذلك النص وعلى أسلوب لفظه وتشكيل كلماته بدلاً من تدبر المغازي والمقاصد من ورائه...

 

ولكن المشكلة الأكبر في نظري هي أنهم في هذه المراكز، وحتى عندما يقومون بشرح معاني القرآن للأطفال، فإنهم يستندون إلى كتب الفقه والتفاسير الوهابية التكفيرية التي تنشر الكراهية وتفرق بين أبناء الوطن، وهنا تكمن المشكلة الكبرى...

كيف؟

سأعطيكم مثالاً بسيطاً، قبل سنوات، سألت أحد الشيوخ الذين تتلمذوا في هذه المراكز مَن هُم الضالين والمغضوب عليهم المقصودين في سورة الفاتحة – والتي يقرأوها المسلم أكثر من عشرين مرة يوميا في كل صلواته – فأجابني بدون أي تردد أن الضالين هم المسيحيين والمغضوب عليهم هم اليهود...

 

لم ينفع جدالي معه يومها ومحاولتي إقناعه أن ذلك ظلم وافتراء على كتاب الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يجوز أن نعلم أطفالنا بأن القرآن الكريم يحتوي على هذه الإدانة الشاملة لشريحة شاسعة من البشر في فاتحته، والتي تبدأ بـ"الحَمدُ لله رَبِّ العالَمين"، ولا تقول "الحمد لله رب المُسلمين"!!

 

فالمغضوب عليهم والضالين هُم تماماً كما تقول الآية؛ بشر بسبب أفعالهم ضلوا عن الصراط المستقيم أو استحقوا الغضب لما اقترفوه من شرور، وهذا قد ينطبق على كل العباد من كل الديانات ولا تخص أصحاب معتقد دون غيرهم، والآية الكريمة لا تحتمل العنصرية والطائفية البغيضة التي يريدونها لها...

 

قلت له يومها أن الصلاة اليومية المرادفة للفاتحة عند المسيحيين تذكر في متنها عبارة "نَجِّنا من الشرير"، وسألته ماذا سيكون موقفه لو قرأ يوم من الأيام تفسيراً غريباً يقول أن المقصود بالشرير هو الشخص المسلم؟

ألن ينزعج شيخنا الفاضل من تلك الإساءة الظالمة لمعتنقي ديانة بأكملها؟

فما بالك لو أن أغلبية إخوان لك في الوطن يصفونك بالشرير؟

طبعاً، أسهل لك أن تحفر الصخر بأظافرك من أن تناقش شخصاً وهابياً وتصل لنتيجة، واليوم يبقى إجماع "أهل السنة والجماعة" - كما يحلو للوهابيين تسمية أنفسهم - ثابتاً ومستقراً على تبني التفسير الشاذ لهوية الضالين والمغضوب عليهم في فاتحة القرآن الكريم، وأي محاولة لتنقية هذه التفاسير وتطهيرها لدفع التهمة عن الإسلام بأنه يعادي الأديان الأخرى لا تزال مرفوضة رفضاً كلياً...

 

تتضح لنا هنا الحقيقة المحزنة وهي أن الإساءة لكتاب الله وللدين الإسلامي التي تصدر عن المسلمين أنفسهم لهي أكبر وأعظم من أي إساءة ممكن أن تأتي من أي شخص آخر...

 

مثلاً، تَدخُل على بائع خضار وفواكه، أو على بقالة أو متجر، وتجد صوتاً مرتفعاً يخرج من السماعات لقاريء يصعب أن تسمع من تلاوته حرفاً واحداً مفهوماً لرداءة جودة التسجيل...

 

وحتى لو كان التسجيل مفهوماً، فالناس مشغولة أصلاً بالبيع والتجارة والمفاصلة والتحميل والتنزيل، بل أحياناً كثيرة تكون منهمكة بالغش أوالنميمة أو شرب الأرجيلة، فمن أين أتت هذه العادة، بأن نترك كلام الله يخرج من تسجيل رديء لا ينصت له أحد في خلفية الضوضاء في المحلات التجارية ، بينما في القرآن نفسه آية تقول:

"وإذا قُرِيءَ القُرآنُ فاستَمِعُوا لَهُ وأَنصِتُوا لَعَلَّكُم تُرحَمُون"

البعض الساذج ربما بدأ هذه العادة للتَبَرُّك والأمل بزيادة الزبائن، والبعض الآخر لإيهام الناس بورعه وتقواه وبأنه تاجرٌ أمين، ولكن في المحصلة فإن ذلك التوظيف للقرآن ما هو إلا امتهان واستخفاف وتسفيه لكتابٍ يقدسه المسلمون ويعتبرونه معجزة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فلماذا تُقحِمونه إذاً في تجارتكم ولغوكم وأماكن عملكم وانشغالكم وسعيكم وراء المال؟

في نهاية الأمر، فإن الجدل المستمر حول مراكز تحفيظ القرآن، والسجال العام الدائر حول تغلغل التيار الوهابي بشكل أوسع في مؤسساتنا التربوية وباقي مفاصل الدولة والمجتمع، هو جدلٌ لن يتم حسمه إلا بعد إجابة المسؤولين في الدولة الأردنية على السؤال التالي بكل صدق وأمانة:

 

هل هدفنا حقاً في هذا البلد هو إنتاج جيل من المتعلمين الباحثين والمبرمجين والمخترعين والمبدعين والمتفوقين والفنانين، ومن يمكن أن نسميهم بالعلماء الحقيقيين؟

أم هل الغاية هي إنتاج المزيد ممن يطلقون على أنفسهم وصف "علماء" على شاكلة العريفي والقرضاوي والمحيسني وباقي شيوخ الوهابية، لكي تزداد عندئذٍ أعداد الأردنيين المتطوعين في داعش وباقي فصائل تنظيم القاعدة عما هي عليه الآن من نسب كارثية مقارنة بباقي الدول؟

 

هذا هو السؤال المفصلي الذي يحتاج إلى إجابة عاجلة من أصحاب الشأن والقرار قبل فوات الأوان، وقبل دخول السبت في مكان لا يُحمد عقباه حسب المثل الشعبي الدارج...

أضف تعليقك