تاريخ للبذاءة

تاريخ للبذاءة
الرابط المختصر

 

كلّما اعتقد المتابعون أن أضواء قد خفتت، حملت إلينا الأنباء "فتحاً" جديداً له في عاصمة أوروبية، وآخرها كان حفله في لندن بحضور الآلاف جلّهم ليسوا من العرب، معجبين بأغاني أعراس هابطة تصاحبها موسيقى وإيقاعات إلكترونية.

 

ليس هناك من فروقات تُذكر بين ظاهرة عمر سليمان وأغانيه وبين مشهد المفاوضات السورية في جنيف، غير أن هذه المقاربة لم تعد تغري أحداً بتتبع تفاصيلها، خاصةً مع الانشغال بالدم وعنه، وامتلاك الأفرقاء جميعهم ترَف التنظير علينا باستقلاليتهم وعبقرية أدائهم السياسي!

 

لذا تفرض "الحصافة" على المرء تجاهل السياسة و"عباقرتها"، ومحاولة رصد تاريخ البذاءة التي تسرّبت إلى الأغنية الشعبية في أكثر من بلدٍ عربي يعاني اقتتالاً داخلياً، وفي مقدمتها سورية والعراق. وللإنصاف فإن صنوفاً من الموسيقى البشعة والكلمات الفجّة غزت الأغنية الشعبية في أغلب دولنا، ولاقت رواجاً منقطع النظير، حتى أن أنظمتنا العربية أنفقت أموالاً طائلة في العقد الأخير على مغنين من الدرجة العاشرة ليتغنوا بحكّامها و"إنجازات"ـهم.

 

في أثناء حصار العراق في تسعينيات القرن الماضي، اشتهرت بعض الأغاني الشعبية التي مزجت بين هموم فئات مهمّشة ورغباتها الدفينة في انتهاك المحرّمات، احتجاجاً منها على الواقع بطريقتها، وفجأة تنبّهنا إلى اجتياح هذا الشكل من الأغنيات -عقب احتلال بغداد عام 2003- عشرات الفضائيات التي ظهرت آنذاك، بتمويل سخيّ لتمثّل كل طائفة ومذهب وقبيلة وميليشيات كلٍّ منها..

 

قبضة الرقابة الشديدة في عراق التسعينيات حجبت تلك الأغاني، وأبقتها محصورة في عالم السهر، في سعي إلى إخفاء تعبيرات "قاع" المجتمع عن إحباطات كبرى مسّته، ولم يلتفت الجميع إلى أن ذلك مؤشّر على كارثةٍ ستحلّ عما قريب، واكتفت بعض التقارير والمقالات الصحافية باستهجانها ووسمها بـ"النشاز"، ولا يزال إلى اليوم نوّاب عراقيون يهاجمونها بداعي "الفضيلة" كسباً لأصوات ناخبيهم.

 

ركزت معظم الأغاني، التي ظهرت في تلك المرحلة، على اغتراب أناس عاديين يظنون أنفسهم "أبطالاً" مستهدفين على نحو معين؛ فهم معذّبون في الحب ويلازمهم الحظ السيّئ بالفقر وانعدام الوفاء، وعليه يصبح مطلوباً ومفهوماً الذهاب نحو الفجاجة في وصف العلاقة مع المرأة وجسدها، أو القدرة على كشف ألاعيب الحبيب والزمن، وتضمينها شتائم تنال من "هيبة" المجتمع وادّعائه الأخلاق، ولا يسلْم الغناء نفسه من الذم بسبب خضوعه للمنظومة "المزيفة" نفسها.

 

تقدّمت هذه الأغاني إلى الواجهة بفعل الهزيمة وجراحها، وتبناها منتجون طمعاً بمكاسب سريعة نالوها، واستثمروا كل المخبوء فينا من فحش ممتزج بحزن وكبت جنسي طوال سنين، فنهضت على يد معلنين سوّقوا منتجاتهم إلى جوار هذه البضاعة، وعلى رسائل جمهور خارج للتوّ من حرب كان وقودها، ولم يكن طرفاً فيها.

 

استقبلت دمشق هذا الغناء القادم إليها مطلع الألفية الثالثة، وأضافت إليه أصواتاً استعارت لهجة الجزيرة الفراتية، المشتركة بين العراق وسورية، وتعمّد أصحابها نجوماً يتسابق عليهم المنتجون، وأضحى سماعهم مألوفاً في السرافيس والتكاسي ومحطات انطلاق الحافلات بين المحافظات ومدنها.

 

مزجت "إبداعاتـ"هم أغاني شعبية معروفة أدّوها بنكهتهم الخاصة طبعاً، وابتدعوا الجديد منها ثمرة تجلياتهم في حفلاتهم التي تواصلت حتى بدايات الأزمة الحالية عام 2011، في حالةٍ تشكّل ذروة كل ما سبقها في هتك المسكوت عنه جنسياً على وجه الخصوص، ويحتاج شكل المطعم/ النادي الليلي في سورية إلى بحث مستقل لفهم انتعاش السياحة الوافدة من دول الخليج حصراً على مدى عقدين من الزمن، وقد يبدو السؤال "مهماً" عن مستقبل هذه السياحة وتحولاتها المستقبلية بالنظر إلى الوقائع والمستجدات السياسية الراهنة.

 

في عام 2006، تحديداً، ظهَر عمر سليمان الآتي من ريف الحسكة في أقصى شمال البلاد، ورغم شخصيته التي تبعث على السخرية، وتميّزه بارتداء الزي الشعبي ونظّارة سوداء لا تفارقه، إلاّ أنّ أشرطته حطّمت أرقاماً قياسية في التوزيع والانتشار، وتفرّد صاحب "خطّابة" و"ورنى" عن بقية أقرانه بتحقيق "نجاحات" أكبر في أوروبا من تلك التي وصل إليها قبل مغادرته مسقط رأسه منذ أربع سنوات، حيث ، وتستمر جولاته الغنائية من دون انقطاع.

 

تعدّ هذه الظاهرة أكبر تجسيد لحالة انفصام عن الواقع تراكمت نتيجة انحطاط سياسي واجتماعي واقتصادي منذ عقود مضت، يقابلها إصرار أوروبي على التعامل معها بوصفها تعبيراً ثقافياً يتسق مع مجتمعاتنا، إذ يحلّ عمر سليمان ضيفاً منتظماً على تلفزيونات وإذاعات غربية تسوقه كـ"فنّان سوري يجسّد تراث بلاده"!

 

لنصفن قليلاً بأنفسنا التي تحتفي بكل هذه البدائية والفحش، وتتنكر في الوقت نفسه بثوب العفة والشرف، والشعارات الوطنية الرنانة، ودعوات الالتزام الديني.

 

محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.

أضف تعليقك