بوصلة الجحيم

بوصلة الجحيم
الرابط المختصر

آلاف الضحايا من المهاجرين "غير الشرعيين" ابتلعتهم أمواج البحر الأبيض المتوسط، وما تزال. يقال إنّ عددهم بلغ حوالي 150 ألف مهاجر. 150 ألف إنسان ألقوا بأنفسهم إلى بحرٍ ربما يحملهم إلى شواطئ تمدهم بأمل النجاة، أو يسحبهم إلى أعماقه السحيقة ليصبحوا وجبات دسمة لأسماكه!

لماذا هاجروا، ومن أين، وإلى أين؟

ولماذا تكون هجرتهم "غير شرعية"؟

جميعهم من إفريقيا وبلدان الشرق الأوسط.

إفريقيا الجوع النافخ بطون الصِغار والكِبار، والعطش المشقق قشرة الأرض الحمراء الغبراء وجلود الناس، والأمراض التي تكتسح القارّة فتمحو، بضربة واحدة مفاجئة، عشرات الآلاف من البشر الذين نجهلهم، وحروب القبائل الحمقاء التي لا ترحم سواطيرُ ثاراتها الأطفال والنساء الحوامل والعجائز من الجنسين!

وبلدان الشرق الأوسط الطاردة لشبابها بعد أن "مَسَحَتْ بهم الأرصفة" بينما يذرعون شوارعها بحثاً عن فرص عمل. أيّ عمل. أيّ دور شريف يتصف بالآدمية يؤدونه يقيهم أنياب الجوع، ويحول دونهم وليل الدعارة، ومخافر السرقات والجرائم، ومساومات القِوادة، والاتجار بالمخدرات، ومرفأ اللاعودة من رحلة باتجاه الجحيم. غير أنّ الجحيم ليس دائماً هو النار الموقدة: إنه، هذا الزمن، أمواه البحار الهائجة ذات الأشداق المظلمة حيث لا أحد يكلِّم أحداً!

قبل هذا كانوا يتكلمون. كانوا يحدِّثون بعضهم بعضاً. عن أحلامهم كانوا يتحدثون. وفي أحلامهم كانوا يرون أنفسهم نشطاء، طلقاء، يكبرون داخل مدن بلدانهم وقُراها. يحِبّون ويحَبّون. يقولون لأنفسهم: نحن نحبّ الحياة! لكنها، هذه الحياة الأشبه بكلبة تنبح على جِرائها تعضها وتطردها، لم تكن تبادلهم المحبّة ذاتها! كانت، وما زالت، ترمي بهم من اليابسة إلى البحار والمحيطات، وحِكمتها اللعينة تهتف بهم– كالميدوزا في ملاحم الإغريق: إما تموتوا غَرَقاً أو تموتوا غُربةً! لا خيار!

وغالباً كان لا خيار سوى الغَرَق، إلّا مَن رحم ربّي!

لكنها ليست مسؤولية الله ما نتطرق إليه هنا.

إذَن: مَن يتحمّل مسؤولية كل هذه الأرواح التي اشترت تذكرة ذهاب الرحلة إلى الجحيم؟ تذكرة ذهاب فقط؛ إذ لم يكونوا يمتلكون ثمن تذكرة الإياب، فركبوا قوارب المغامرة مدركين، في أعمق أعماقهم، إنما يركبون توابيت المقامرة بكلّ شيء. كلّ شيء.

أليست حياة كلّ واحد منهم هي كُلّ شيء؟

يتساءل الواحد مِنّا عن الأسباب، لكنه يعرفها مثلما يعرف اسمه وباطن كفّه. وهو، حين يطرح تساؤله العارف، يطرحه على المسؤولين عن إدارة شؤون حياته: شؤون بلده: شؤون مستقبل أولاده: شؤون الحيوات التي لم تولد بعد، والمُرَشَّحَة – إذا ما استمر هذا الحال على حاله – لأن تموت هي أيضاً بحسب مواصفات تلك الهجرة غير الشرعية، وبالتأكيد.

والآن. إذا كانت بلداننا هي الجحيم بحسب شروط العيش فيها (بَطالة عارية من دون أقنعة، حروب جاهلية تأكل محاربيها من كل الأطراف، فساد على أعلى المستويات، خراب في التعليم وإهمال في التربية وتجهيل في التوجيه، خدمات شحيحة بالتنقيط بالمقابل من ضرائب ثقيلة ورسوم إدارية تدفع فوراً، إلخ)؛

إذا كانت بلداننا هي الجحيم؛ فأين الجنّة إذَن؟

أهي أوروبا، على الطرف الآخر من شواطئ المتوسط، حيث الأزمات الاقتصادية تعصر بلدانها وتلقي بمواطنيها في ساحات الاحتجاجات على خطط التقشّف وارتفاع الأسعار، وشوارع المظاهرات ضد عشرات آلاف الوظائف المفقودة، والولادة الجديدة لليمين المتطرف الكاره للـ"أجانب" الذين "يسرقون" الرغيف المدعوم من أفواه مَن دفعوا ضريبته!

المسائل نسبية. طبعاً.

ولكن يبقى السؤال معلّقاً فوق الرؤوس:

عن أيّ شرعية ينبغي أن نتحدّث؟

شرعية الهجرة من الجحيم إلى الجحيم، أم شرعية جميع الذين أداروا بُلداناً عملت على تهجير شبابها وقد زودتهم ببوصلة ذات اتجاه واحد:

الجحيم هنا، الجحيم هناك، فأين المَفَرّ؟

 

  • إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.
أضف تعليقك