"بترول أردنيٌّ" فَوْقَ السفوحِ والجبال

"بترول أردنيٌّ" فَوْقَ السفوحِ والجبال

 

 

 

يشربُ الأردنيُّ والأردنيةُ نحو 1.2 ليتر من الكحول شهريّاً، بمعدل استهلاك 15.2 ليتراً في السنة، وفقاً لتقديرات منظّمة الصحة العالمية، قَبْلَ عامين، وقد لا تعكسُ هذه الكميّاتُ مستوى الإقبال على الكحول، على النحو الظاهر لرواجِ هذه التجارة، في بلدٍ غالبيةُ سكانه من المسلمين، إِذْ أنَّ الأرقامَ المتصلةَ بالانطباع تبدو صادمةً بغرابة، حينما تُسجِّلُ المنظمةُ نفسها أنَّ الألمانَ والروسَ يستهلكون الخمورَ أقلَّ من مُسلمي ايران وأفريقيا، وأنَّ التونسيَّ يشربُ ضعفَي ما يُسكبُ في كؤوسِ الألمانيّ.

 

الشاربون الأردنيون أكثر من مليون، مع ملاحظة أنَّ الأردنيين المسيحيين يقلّون عن نصف هذا الرقم. معظمُ الشاربين من المسلمين، والمنظمة اعتمدت إحصاءً سكانيّاً في حدود 6.4 ملايين نسمة للبلاد في 2014، ولم تحتسب الزيادةَ السكانيةَ المترتبة على أزمات الجوار، وغيرها من عوامل، رفعت التعدادَ إلى 9.5 ملايين نسمة، ما يعني حُكماً ارتفاعُ أعداد مستهلكي الكحول عن المليون، يُقبلون على شرائها من أكثر من 370 متجراً، لبيع المشروبات الروحية في الأردن، عدا عن الفنادق، والمنتجعات السياحية، على الرغم من الارتفاع المتزايدِ للضرائب والجمارك على الخمور المحلية والمستوردة، والحرص الحكوميّ على استثنائها والسجائر من أيِّ توجّهٍ للخفضِ، نظراً لاعتبارها سلعةً كمالية. الحكومةُ تتوخّى، باستمرار، فرضَ تدابيرَ جمركية وضريبية ترفعُ أسعارَ المشروبات الروحيّة، لزيادة دخل الخزينة، وتستفيدُ شعبيّاً من مغازلة ناقمين في المجتمع على هذه الصناعة، وفي موازاة ذلك تزيدُ أسعارِ المواد التموينية الأساسية، تفاهماً مع خديعةٍ عاطفية، تضربُ الحكوماتُ على أوتارها، لجمهورٍ مستعدٍّ للطرب.

 

الحكومة تعرفُ بدقة أرقامَ الاستهلاك الكحوليّ في الأردن، وتلاحظُ حركةَ بيعها في السوق المحلية، وفي الأسواق الحرة، وقطعاً لديها أرقامٌ دقيقةٌ عن إنتاج المصانع الأردنية. أبعدَ من ذلك، فهي تُدركُ الفرصَ والإمكانات للاستفادة من هذا القطاع، وتقطيره فوائدَ اقتصادية للتصدير، بعد رفع مستوى الجودة، والمواصفات، طبقاً للمعايير العالمية، ووضع خطط للانتاج والتسويق، لكنها تُفضّلُ التردد على حساب الاقتصاد، وتخسرُ عوائدَ ممكنة، وكلّ ذلك لا يُغَيِّر من واقع الصناعة والاستهلاك في بلدٍ يُنتج الكحول، ويبيعها من خلال سبع شركاتٍ مسجلة في غرفة صناعة عمان، خمس منها مصانعُ للتقطير، فيما يحتلُّ الأردنيون المرتبة الثامنة عربياً في معدل استهلاك الفرد من الكحول سنوياً، بعد السودان، ولبنان، وقطر، والبحرين، والمغرب، وسورية، وسلطنة عُمان.

 

قبل أعوامٍ قليلة أنفقَ مُستثمرٌ أردنيٌّ أموالاً طائلة على مزرعة عنب في شمال الأردن، واستوردَ أشتالاً من فرنسا، لزراعة كرمة تُنتجُ النبيذَ الأبيض، من نوع "شاردونيه" الأكثر شعبيّة في العالم، لاعتدال أسعاره. لم يحصل المستثمرُ على رخصةٍ لانشاءِ معصرةٍ ومصنعٍ صغيرٍ لإنتاجِ النبيذ، فقد توالت العرائضُ الشعبيّةُ المندِّدةُ بالمشروع، وحين رضخت الحكومة، ومنعته، تردَّدَ أنّ سكانَ المنطقة وزّعوا حلوى الانتصار على خسارة ما كانَ يُمْكِنُ أنْ يوفِّرهُ المصنعُ من فرص عمل، وجذب سياحيٍّ إلى منطقتهم.

 

يتصرَّفُ النَّاسُ ضدَّ مصالحهم، لدوافع ثقافية، أو دينية، وهذا شأنٌ مألوفٌ في بلادنا، والحكم على ذلك ليس في سياق لومٍ، أو تحفّظ، أو مديح، فالدولة هي التي تعرفُ أنَّ زراعة عنبٍ صالح لإنتاج النبيذ وتصديره إلى الاتحاد الأوروبيّ يوفر نحو أربعة مليارات دولار، علماً أن الزراعة كلها تساهمُ بنحو 713 مليون دينار، ليسَ أكثر، نسبةً إلى الموقع الالكتروني لوزارة الزراعة. الدولة، وليس الناس، تمتلكُ أرقاماً عن القطاعات التي تنمو بفضل الانتاج الكحوليّ، مثل صناعة الزجاج، والورق، والمحاصيل الحقلية، إلى جانب المنتجات الكيميائية، وخدمات الأعمال، وذلك مثبتٌ في بيانات دائرة الإحصاءات العامة، التي أظهرت أنَّ قطاع الكحوليّات يُساهمُ فقط بـ (0.10%) في الناتج المحلي الإجمالي، بين 81 قطاعاً.

 

هذه النسبةُ فقيرةٌ جداً، مع وجود آفاق واسعة لتنمية هذه الصناعة، أما جنيُ مكاسبها ضمن الصادرات الوطنية، فلا يحتاجُ فقط إلى جرأةٍ في سياساتٍ، تُقدِّمُ المكاسبَ على الحساسيات الثقافية، وتتجاوز تقمُّصَ الولايةِ الدينية على السهول والسفوح الصالحة لزراعة عنب النبيذ، وسائر مشتقاته الكحولية، فلا بُدَّ من خططٍ تنموية، تتوسعُ في زراعة المحاصيل الملائمة لهذه الصناعة، فمن يحرثُ أرضاً، ويبذرها، ليحصدَ فصيلةً خاصة من الشعير المناسبِ لإنتاج البيرة، يستحقُّ تشجيعاً وعنايةً أكثرَ من الذي ينتظرُ الإعانةَ، ويتخصَّصُ في بيانات الشجب والاستنكار.

 

ذَلِكَ لا يتعلّقُ فقط بالحساسيات الدينية والاجتماعية، لئلا ترفعه الدولةُ مُسوّغاً لتباطؤ تقدمها في هذا المجال، فحال الأصناف والمحاصيل "الحلال" ليست أفضل حالاً من كرمة النبيذ، في ظلّ توفر كل عوامل النجاح الطبيعية والمناخية، للتوسّع في الزراعات البعلية، بتعميم نجاحنا في زراعة الزيتون، الشجرة المخلصة لحوض البحر الأبيض المتوسّط، والأكثر تحمّلاً لتقلبات المواسم المطرية والجفاف، وزيادة عددها عن 17 مليون شجرة، وفقاً لوزارة الزراعة، التي تُشير إلى أنّ مساحة الأراضي الصالحة للزراعة تبلغ 8.9 مليون دونم، ولا تزيدُ نسبةُ المستغلّ منها عن 26.7%.

 

الكحولُ الأردنيةُ ذات جودة مشهود لها، ومساهمتها في الناتج المحليّ لا تعبِّر عن واقعها وسمعتها، والتصالحُ مع الحاجة والمصلحة، أجدى من الخجل والإنكار والتردد، وانتظار مِنَحِ وهباتِ الآخرين، فهذا "بترول أردنيٌّ"، علينا أنْ نستخرجهُ من الخوفِ والفصامِ..

 

*   باسل رفايعة: صحافيّ أردني، عمِل في صحفٍ يومية محلية، وعربية.

أضف تعليقك