انفجار تأخَّر مئة عام

انفجار تأخَّر مئة عام

 

من باب الإلهاء السياسي يجري الحديث عن تغيير الخرائط القائمة وتقسيم بعض الدول العربية، مع مرور مئة عام على اتفاقية سايكس بيكو -التي يصادف توقيعها 16 أيار- وهو نقاشٌ تبرع في تسويقه غالبية الأنظمة والأحزاب والنخب العربية، وأقل ما يمكن توصيفها أنها قد انتهت منذ زمن طويل، ولكن أخطر ما نعيشه أن موتها لم تواكبه ولادة نظام جديد يحلّ مكانها.

 

تقاسَم البريطانيون والفرنسيون بلاد الشام والعراق في اتفاقية أتت بعد إخفاق عربي في إصلاح الدولة العثمانية (كان للأتراك الدور الأكبر في إسقاطها)، أو القيام بثورات عليها تمنحنا الاستقلال، وكل من يحاول أن يصوّر انشقاقاً عربياً مدعوماً من الغرب في أثناء الحرب العالمية الأولى التي دارت بين تركيا والمحور وبين بريطانيا والحلفاء بأنه ثورة كبرى يبدو واهماً ورغائبياً في قراءة التاريخ.

 

الإخفاق الأكبر تمثّل بإجهاض مشروع النهضة الذي قاد أسئلته مفكرون وفقهاء في القرن التاسع عشر (أمثال الكواكبي والطهطاوي ومحمد عبده،)، ولم نستطع حتى اللحظة أن نقدّم إجابة متوافق عليها حول ذاتنا/ هويتنا (العربية/ الإسلامية) وعلاقتها بالآخر الأوروبي، حصراً. وبالطبع لم نتمكن كذلك من إعادة مراجعة تاريخنا عبر ألف وأربعمائة خلت، وبقينا عالقين بين فريق يقدّسه، ويفسّر كل ما يحدث باعتباره مؤامرة على الأمة (المختلف على تعريفها إلى اليوم) وبين فريق يهاجمه ويعتقد أن الاستبداد وحده قادنا إلى كل هذا الانحطاط والتخلّف.

 

انكساراتنا السياسية مرّدها هزيمة وعي وإرادة عمرها مئات السنين، ليتكرر الانقسام نفسه كلما تعرّضت منطقتنا للغزو؛ مسلمون يُحمّلون الحكْم العباسي الفاسد مسؤولية هزيمته أمام التتار، مقابل مدافعين عنه يسوقون الاتهامات للمتعاونين مع الغازي الذين تسببوا في انهيار الخلافة، بحسب رأيهم، ثم نعيش الحال نفسها مع حملة نابليون إلى مصر والشام؛ فريقٌ منبهرٌ حتى بعربة جمْع النفايات التي سيّرها الفرنسيون في شوارع القاهرة، وفريق يرى وجوب الدفاع عن سلطة المماليك بغض النظر عن أخطائهم وخطاياهم في إدارة البلاد.

 

وحين هُزم أحمد عرابي في انقلابه على الخديوي، الذي أعقبه دخول الجيش البريطاني إلى مصر، انقسمت النخب بين اتجاه يتبنى التحديث القادم من الغرب وكأنه لا وجود لجنود الاحتلال على أراضيهم، واتجاه يرى وجوب الانحياز إلى أي سلطة تقف في وجه الإنجليز بذريعة الخوف على الجماعة والدين.

 

بالانقسام ذاته واجهنا انهيار السلطنة العثمانية؛ البعض لا يزال يستذكرها بوصفها خلافة إسلامية تآمر عليها الغرب وينظر بإجلال إلى السلطان عبد الحميد الثاني لدفاعه عن فلسطين والإسلام، وآخرون يرونها قوة استعمار سقطت بسبب تسلّطها وفسادها.

 

لنعترف بأن الإسلام والعروبة وتراثهما لم تعد تشكّل توافقاً لبناء دولة وعقد اجتماعي؛ في بلدان المغرب، تتزايد حدّة أصوات تجرّم ما تسمّيه "الاحتلال العربي/ الإسلامي" وما قام به في سبيل طمس الهوية المغاربية/ الأمازيغية، ونرى في الوقت ذاته في المقلب الآخر عشرات آلاف المغاربة المننمين إلى داعش والقاعدة في دولهم وفي أوروبا كذلك.

 

كما تشهد مصر صراعاً حول هوية مجتمعها ومستقبله، ومن عوارضه تعاظم المخاوف المتبادلة بين مكوّناته، وبالضرورة لا يصلح اختزاله بالتجاذبات السياسية، الطافية على السطح حالياً، التي تصنّعها أجهزة استخبارات ووسائل إعلام تستثمر في إبقائها ضمن هذه المتاهة.

 

في الهلال الخصيب لم تنجح المشاريع القومية في دمج العشائر والطوائف في دولة حديثة، وها هي تنفرط اليوم بين مظلومتيتين؛ مظلومية الأقليات التي تتقنع بقناع التعددية وحتى العلمانية، ومظلومية السنة التي تتلبس رداء الأكثرية، وبينهما ثارات ودماء ورعب من القادم المجهول. ولا نبوءات تخصّ الجزيرة العربية التي تنام على سنين من الفتنة وحصادها المر.

 

بعد مئة عام على سايكس بيكو، يبدو عبثياً التلويح بخطر تقسيم "الأمة"، فالتجزيء والتقاسم والمحاصصة مستقرة في وعينا، إذ تسبّب الاستعمار ثم أنظمة الاستقلال التي خلّفته باحتقانات ولّدت انفجاراً تأخّر مئة عام، ونحن نواصل الهرب من مواجهة تساؤلات: من نحن، وكيف نراجع ماضينا، وما هو مصيرنا؟ التي لم نجب عليها فتمّ تسليمنا من مستبدٍ إلى مُحتلٍ وبالعكس، ولم نتمكن إلى اللحظة من تأسيس عقل نقدي يمكنه مواجهة الاستبداد الداخلي وأطماع الخارج في آن معاً.

 

محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.

أضف تعليقك