"انتفاضة" تغتال الانتفاضة

"انتفاضة" تغتال الانتفاضة
الرابط المختصر

 

 

يحتاج ملايين المتخاذلين والمخذولين في الوطن العربي للفرجة على أبطال الحجارة لعلهم "يغسلون العار"، و"يزلزلون الأرض تحت الاحتلال"، و"يعيدون البوصلة إلى اتجاهها الصحيح"، وكأننا نريد أن نفصّل "انتفاضة" تشبع رغبتنا في التطهر، وتحقق أحلام العاجز فينا، ولا تفوّت الفرصة بالطبع أمام تاجرٍ يريد أن يقايض دماً على تضارب الأسواق وتنوع البضائع.

 

إذا كانت نتائج الانتفاضة الثانية أسوأ من الأولى، بسبب وحشية الاحتلال، وقيام متضررين منها فلسطينياً وعربياً بعملية سطو مسلح عليها، فإن الواقع الحالي يبدو أكثر تعقيداً، ويبعث على مزيدٍ من التشاؤم، لأن مهمة الشباب الفلسطيني المنتفض تتمثل بخلق قيادة جديدة، وأهداف واقعية لانتفاضتهم، وهي تكاد تكون مستحيلة أمام سعي القيادات القديمة؛ في السلطة وحماس بالدرجة الأولى، على إشعال "انتفاضة" مسلحة تغتال هذه الانتفاضة، وتقضي على فرصة اختبار القوى الكامنة في المجتمع الفلسطيني لطاقاتها وإمكانياتها وقدرتها على التغيير!

 

ولا يخفى على أحد أن المحاور الإقليمية المتناحرة لا تفضّل انتفاضة ثالثة، بل تمتلك قوة "سحرية" على إبطال فاعلية الصراع العربي الصهيوني، وربما يجدر بنا العودة إلى الحرب الأخيرة على غزة، حين سارعت الأطراف جميعها إلى توظيف الصمود الفلسطيني، فكانت النتيجة المؤسفة هي خسارة فلسطينية بامتياز استطاع إعلام السلطة وحماس والفصائل تصويرها نصراً استثنائياً، وفق أهوائهم وأوهامهم، مقابل تجاهل عربي بسبب انشغال إعلامه بحروب سوريا والعراق وليبيا واليمن.

 

أشارت أكثر من دراسة، فلسطينية وأجنبية، أجريت في الضفة الغربية إلى أن غالبية الشعب الفلسطيني (أكثر من النصف) لم تعد تؤمن بـ"أوسلو"، ولا بخيارات حكومة عباس، ولا بوجودها أساساً، وأن هذه الكتلة الحرجة تتألف في غالبيتها من الشباب دون الثلاثين من العمر، وهم خارج إطار السلطة، وأمن السلطة، وبزنس السلطة، وغير منظمين سياسياً، وعليه يمكن القول إن خروجهم إلى الشارع هو تعبير عن إحباطهم ويأسهم من قيادتهم، ومن جميع القيادات العربية، ومن التواطؤ الدولي من خلال تغييب القضية.

 

الحال الفلسطينية لا تختلف عن نظيراتها العربية، بالاحتكام إلى احتكار جميع الأنظمة للثروة والقرار، وبأن الخروج عليها يجري اغتياله وتحويله –بأسرع مما يمكن تخيله- إلى تمردٍ مسلح، لتغيب أية قوة كامنة قد تمتلكها الكتلة الحرجة، في المجتمع، لصالح قوى مهيمنة في داخل كل نظام وفي الإقليم ككل، إلاّ أن فلسطين تخضع لمركب هذه القوى متحالفة، بشكل مباشر أو غير مباشر، مع الاحتلال.

 

لا ينفصل الحديث عن تسليح الفلسطينيين المجاورين للمستوطنات عن محاولات السلطة تجيير الغضب الشعبي في سياق مناوراتها السياسية بوصفه مجرد ورقة لإعادة عملية المفاوضات، وإيجاد عوامل تضمن لها البقاء فترة أطول، وهو ما يذكّر بما حصل في الانتفاضة الثانية وما أعقبه من خسائر سياسية ومادية وبشرية، وصولاً إلى مضاعفة الإحباط الفلسطيني ومراكمته في نهاية المطاف.

 

صواريخ القسّام لا تبتعد عن الحسابات السياسية لحركة حماس، التي حلمت وتحلم بانتفاضة ثالثة في الضفة، على مقاسها، لنكون إزاء جملة مصالح ضيقة، لا أكثر ولا أقل؛ العودة إلى تنظيم صفوفها في مناطق السلطة، والدخول في ألاعيب سياسية مع حركة فتح حول قيادة موحدة للانتفاضة، سيعيقها تضاد العناوين وافتراق الأولويات لدى الطرفين.

 

بؤس الوضع الداخلي لا يحجب بطش الاحتلال وإرهابه، وذهابه إلى مواجهة مفتوحة على المستويات كافةً، وفي مقدمتها اختراق صفوف الانتفاضة باعتماده على المستعربين أو عبر قنوات التنسيق الأمني مع رام الله.

 

إشارات متعددة تدلل على صعوبة تجاوز الواقع المذل واشتراطاته، وهو ما يدفع إلى ضرورة الانخراط الكامل للفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948، حيث لا يخضعون هناك لانقسامات سياسية متعمقة كما هو الحال في الضفة والقطاع، وغير محكومين بسلطة تنسق مع الاحتلال ولا بكل إفرازات أوسلو، وهم غير مرتبطين بالتطاحنات الإقليمية، كما أن فعلهم على الأرض أقوى وأكثر تأثيراً.

 

والأهم من ذلك كله هو قدرات أبناء الناصرة والجليل، والقدس، وحتى الجولان المحتل، في إدامة نضال سلمي أطول وقت ممكن، وينتج حرجاً أكبر للاحتلال، وهو ما يتطلب مشاركتهم في تأسيس قيادة موحدة للانتفاضة مع أهل الضفة والقطاع، وربما يكونون هم رأسها.

 

آمال عريضة لقلوبٍ مكسورةٍ ومدماةٍ تخشى رؤية "انتفاضة" تغتال الانتفاضة!

 

محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.