الوطن والأردنيون سيدفعان ثمن المواجهة بين السلطة والإعلام!
حان للحكومة ان تفي بوعدها تحديث الاجندة الوطنية انسجاما مع كتاب التكليف السامي.
يتابع الأردنيون بقلق ودهشة تداعيات أزمة الشد بين الحكومة والمواقع الالكترونية إلى جانب بعض وسائل الإعلام المستقلة التي تحاول فرملة ترويض الإعلام تحت عباءة السلطة التنفيذية, اختطافا من مظلة الوطن الأكبر من الجميع.
وثمّة قناعة متزايدة بأن الوطن والمواطن سيدفعان ثمن التوتر المتنامي بين الحكومة وفلول السلطة الرابعة التي تحاول القيام بدورها الرقابي في ظل تغييب السلطة التشريعية وحجب رأي الشارع الصاخب المسكون بالقلق على المستقبل, مطاردة لقمة العيش, الوظيفة, فرصة تعليم, والحد الأدنى من الخدمات الحكومية, في دولة الضرائب.
مقابل ذلك تسعى الحكومة لرسم صورة وردية وتجميل وجهها من وحي برنامج علاقات عامة تغزله شركة استشارية غير محلية. هذا الترويج الأحادي لن يجدي نفعا, حال الخطاب السياسي التجميلي وبيع الأحلام في التعامل مع الجماهير. كذلك لن ينجح سعي المسؤولين لصناعة نجومية عبر محاولات تسويقهم على أنهم "محبوبو الملايين" من خلال تغطية إيجابيات زياراتهم الروتينية أو التفقدية لأحوال العباد في بوادي وقرى الأردن ضمن برنامج علاقات عامة. ولن تقنع أحدا محاولات تخوين الصحافيين وتصوير بعضهم على أنهم مأجورون ومخترقون على يد عملاء يحركونهم لتسديد ضربات انتقامية ضد الحكومة.
في السياق ذاته لا يمكن تبرير قوانين الحكومة المستعجلة لتكبيل الإعلام الإلكتروني وجرّه إلى حظيرة الصحافة الرسمية وشبه المستقلة, مع الإقرار بمطالب تنظيم هذا القطاع الاستشرافي لكن بعيدا عن الرقابة البوليسية.
أنظروا العالم من حولنا. الإدارة الأمريكية تبدو عاجزة عن دفع القائمين على موقع "تسريبات ويكي" Wikileaks إلى وقف نشر آلاف الوثائق المثيرة للجدل حول احتلال أفغانستان. فجل ما لوّحت به وزارة الدفاع هو تحذير الموقع من تبعات تسريب الوثائق باعتباره "قمّة اللامسؤولية لأنه قد يعرض حياة أفغانيين وأمريكيين للخطر".
حتى الدول الموسومة بالرجعية والشمولية تقر بتحليق المواقع الالكترونية خارج مدى السيطرة. أما نحن, فلماذا نصر على ازدواجية المقاربة بين التزمير تحت الأضواء بارتفاع السقف وبين قمع الصوت الآخر وراء الكواليس.
مع فارق المقارنة, يتذكر جيلنا بروباغاندا حرب الأيام الستة عبر إذاعة "صوت العرب" بقيادة الإعلامي المصري أحمد سعيد الذي انتصر في معركة الوهم بصوته الجهور, وهو الذي أسقط مئات الطائرات الإسرائيلية من على كرسيه قبل أن تتكشف أبعاد الهزيمة التي وصفوها تصغيرا بالنكسة. كذلك نتذكر المصطلحات التي ادخلها وزير الإعلام العراقي محمد سعيد الصحاف في مستهل الغزو الأمريكي للعراق, وهو يحاول تعبئة الجماهير للقتال والمقاومة ضد "العلوج والأفاعي والطراطير", قبل أن تتهاوى بغداد بسرعة البرق.
في الشأن الداخلي, لم نكن بعيدين عن التهويل من جهة وحجب الحقائق من جهة أخرى حتى دمرنا ما تبقى من جسر الثقّة مع الناس.
تتذكرون الكم الهائل من الضغوط التي مورست على الإعلام لحجب الرأي الآخر ومنع دق ناقوس الخطر أمام تردي الوضع الاقتصادي والسياسي في منتصف ثمانينيات القرن الماضي, قبل أن تهتز الصورة بين ليلة وضحاها ليبدأ الأردن برنامج تصحيح داخلي سياسي واقتصادي تحت رقابة البنك وصندوق النقد الدوليين, بعد أن انهار الدينار دون نصف قيمته الشرائية أمام سلة العملات الأجنبية آنذاك.
لا شك أن دبلوماسيي الدول الغربية المانحة ومنظمات المجتمع المدني الأجنبية تراقب التخبط الواضح سيما في قطاع الإعلام. وليس من المستبعد أن يرفع عدد منهم الكرت الأصفر وربما الأحمر أمام تناسل الأزمات في البلاد. المركز الوطني لحقوق الإنسان, المعروف عنه النزاهة والاستقلالية, كان سباقا في انتقاد حجب المواقع الإلكترونية عن الموظفين وأيضا قانون منع الجرائم الإلكترونية باعتباره "يمس بالحريات الشخصية (..) وحق الحصول على المعلومة التي كفلها الدستور". ولا يغيّر كثيرا تصريح رئيس المركز عدنان بدران, رئيس الوزراء الأسبق, الذي أعلن "تفهمه" لمبررات سن مثل هذا القانون, بعد حملة علاقات عامة قادها وزير الدولة لشؤون الإعلام والاتصال علي العايد ووزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات مروان جمعة.
المفارقة أننا لا نقر بالدرك الذي وصل إليه الإعلام, كما نتجاهل المسؤولية عن هذه الأوضاع وكأننا في حالة انفصام شخصية.
قبل شهور, ثارت ثائرة الحكومة على تقرير فريدوم هاوس "بيت الحرية" المؤسسة الأمريكية المستقلة التي تصدر تقريرا سنويا يقيس حال الحريات الصحافية حول العالم. التقرير صنّف صحافة الأردن بأنها غير حرّة, ذلك أنها تراجعت إلى 63 نقطة ضمن سلم من واحد إلى مائة (1-30 تصنف حرة, 31-60 تنقلب إلى حرة جزئيا وفوق 60 تنقلب إلى غير حرة. في ذيل القائمة دول شمولية مثل كوريا الشمالية, ليبيا وسورية.
من يدري الدرجة التي سيسجلها الأردن العام المقبل, في ضوء التراجع المستمر في المشهد الإعلامي, مع ان إعلاميين وسياسيين يعتقدون بأن الأردن يستحق أن يقفز تحت درجة 59 ضمن مساحة الإعلام الحر جزئيا.
هذا المسلسل عاشه الأردن سابقا. نهج الاستهتار بالرأي العام ومحاولة إغلاق قنوات الاتصال ومواراة الأمور ظنا من الحكومات أن الناس لا تعرف أو لن تتأثر. هذه السياسات المخادعة غير المؤثرة أثبتت فشلها قبل أحداث 1988 وقبل وبعد توقيع معاهدة السلام وقبل وبعد جهود التحديث لعصرنة الأردن. في تلك الحقب, لمّا تكن ثورة المعلومات وطفرة المواقع الإلكترونية قد اجتاحت العالم لتزيل الحواجز والحدود.
لم نتعلم من أخطائنا. لذلك تتواصل حالة الاغتراب المجتمعي فيما تتسع فجوة الثقة.
تخيلوا الأصوات الاحتجاجية التي ستلقى في صناديق الاقتراع في حال استمرار هذه الأوضاع عشية الانتخابات على وقع تنامي خيار المقاطعة? لماذا نجني على الأردن ومتى سنصحو من غفلتنا?
أمام الحكومة فرصة أخيرة لتغيير مسار الأمور عبر تنفيذ وعدها بتحديث الأجندة الوطنية انسجاما مع كتاب التكليف السامي وتسريع برنامج التحديث الملكي. عليها العودة إلى سياسات الانفتاح السياسي والإعلامي لتتماشى مع سياسات الانفتاح الاقتصادي. دون ذلك لن تكتمل حلقة الإصلاح وسنظل ندور في الحلقة ذاتها. عودة سريعة إلى الأجندة بمحوريها السياسي والإعلامي تعكس تمنيات يمكن تحقيقها لجهة توسيع قاعدة المشاركة في صناعة القرار, فرز مجلس نيابي يمثل طيفا واسعا من الأردنيين بعيدا عن المحاصصة والجهوية, وتحرير وسائل الإعلام من سطوة الحكومات.
الأجندة تعكس الإعلام الذي نريد ضمن البنى الدستورية والنظام القانوني وفي المجتمع. من غير المعقول أن تواصل الحكومة الادعاء بأن الصحافيين لا يلتزمون بالقواعد المهنية والأخلاقية والقانونية. فالإعلام جزء من كل. ولا بد للقطاع من أن يطهر ذاته بسلاح القارئ, المستمع والمشاهد. لا تعيش الصحافة فوق برج عاجي في حضن الحكومات منفصلة عن المجتمع.
في الختام, قال تعالى: "فأمّا الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض".