"الورقة البيضاء".. الخيار البديل للاستنكاف والمقاطعة
إسقاط ورقة بيضاء أو "احتجاجية" في صناديق الاقتراع قد يشكل مخرجا دستوريا وقانونيا لمن يرغب في تسجيل موقف بعيدا عن خيار الاستنكاف و المقاطعة الذي يرفعه عدد متنام ممن فقدوا الأمل بإصلاحات سياسية حقيقية خارج "ديكورات" عملية التحديث الدائرة في حلقات مغلقة.
فإلقاء الورقة "البيضاء" ممارسة لحق المواطنة, عمل سياسي منظم ووسيلة مجدية ترفع معدل المشاركة, لكنها لا تحتسب لمصلحة أي جهة أو أي من المرشحين. في الوقت ذاته, تؤشر هكذا ممارسة إلى أن الأردنيين اختاروا المشاركة في الحياة السياسية عبر الاحتجاج الايجابي بهدف لفت نظر السلطات إلى استيائهم متعدد الأسباب. كما تصب في إطار حث السلطات على تغيير سياسة الأمر الواقع والتسكين بديلا عن شعار المقاطعة والبقاء في البيوت.
الورقة البيضاء تعني ببساطة أن أيا من المرشحين لم ينل ثقة "الناخب المسجل". لكن الأخير قرر الانحياز لمصلحة الوطن عبر رفع نسبة الاقتراع, بخاصة في مناطق الثقل السكاني المختلط (عمان, الزرقاء واربد) حيث تتدنى نسب المشاركة عادة مقارنة بمناطق الثقل العشائري.
فالتحدي الأساسي الذي يواجه حكومة سمير الرفاعي عشية الانتخابات المقررة في التاسع من الشهر المقبل يكمن في حملة الاستنكاف المتدحرجة التي أخذت تنسحب على مختلف مجالات العمل العام, بدءا بالفضاء الحزبي, النقابي والاجتماعي الطوعي وانتهاء بخيار مقاطعة "العرس الديمقراطي" لا سيما التيار الإسلامي المؤثر, شرائح مجتمعية, وشخصيات وطنية نافذة.
مع اتساع رقعة المقاطعة من قوى تقليدية موالية, يتخوف مسؤولون في مجالسهم الخاصة من أن يستغل الإسلاميون المقاطعة الواسعة, ليجادلوا أمام السلطات والغرب بأنهم الأكثر تأثيرا في الشارع وأن غيابهم عن المعادلة الديمقراطية تفقدها مصداقيتها.
كذلك ستنعكس أجواء المقاطعة سلبا على معدل الإقبال, ما يمس مصداقية مجلس النواب القادم ودوره السياسي والرقابي ويدخلنا في حلقات مفرغة, بينما يستمر تغوّل السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية بعد انبطاح الإعلام. وهكذا بدلا من أن تكون الانتخابات خطوة على طريق الإصلاح المنشود ضمن عملية المراجعة الموعودة, ستكرس فصلا من فصول الاستنكاف والعزوف وتعمق الأزمة العامة في البلاد.
المشاركة وإن بورقة بيضاء ستعطي انطباعا بأن الشعب معني بالإصلاح السياسي من بوابة تغيير آلية الانتخاب البالية إلى قانون عصري يوسع قاعدة التمثيل ويفرز مجلسا بدور سياسي رقابي وتشريعي فاعل يشكل حلقة وصل شفافة بين الشارع والحكومة ويضمن توازن السلطات.
ارتفاع عدد الأوراق البيضاء في الصناديق يعد بمثابة جرس إنذار للدولة "بأن هناك أشياء خطأ تدور على أرض الواقع" في غياب قوى سياسية وحزبية فاعلة.
في البال استحضار تجربة المغربيين في الانتخابات النيابية الأخيرة في أيلول ,2007 قبل شهرين من توجه أشقائهم الأردنيين إلى صناديق الاقتراع لينتخبوا مجلسا سيحل بعد عامين, على وقع ممارسات تزوير واسعة النطاق بدأت قبل الاقتراع, خلاله وأثناء فرز الصناديق. كانت تلك خطة تدخل استباقية محلية وافق عليها كل من جلس في مركز صناعة القرار وقتها بهدف ضرب شوكة التيار الإسلامي الموالي لحماس, ظنا منهم أن في ذلك حماية لمصلحة الدولة العليا.
لكن السحر انقلب على الساحر. دفعت الدولة بمكوناتها كافة ثمن ما حصل من تزوير لإرادة الشعب بهدف الإتيان بمجلس "مطواع غير مسّيس" يدار بالريموت كونترول الأمني بأمل منح المسؤولين فسحة وقت لالتقاط الأنفاس وتنفيذ برنامج تحديث شامل إشكالي في غياب توافق مجتمعي حول شكل وهوية الأردن الجديد. النتيجة فقدان ثقة الأردني بهياكل الدولة وقراراتها وعزوف عن المشاركة في أنشطتها.
في الانتخابات المغربية, اختار المغاربة المشاركة في الحياة السياسية لبلادهم رغم استيائهم من الوضع السياسي في مملكتهم وسياسات الحكومة لا سيما في المجالات الاقتصادية والاجتماعية. ثمّة تشابه ملحوظ بين النظامين الحاكمين والحراك السياسي, الاجتماعي والاقتصادي في البلدين مع أن الأحزاب المغربية قطعت أشواطا في عالم السياسة وغدت تشكل حكومات.
اظهرت النتائج بأن واحدا من كل ثلاثة مغربيين يحق لهم الاقتراع أدلى بصوته في عملية انتخاب غلب عليها النظام, الشفافية والإعلان السريع عن النتائج في كل واردة وشاردة, بينما صبّت الأصوات البيضاء بنسبة 19% في اللوائح المحلية و28% اللوائح الوطنية.
صحيح أن معدل الإقبال في جميع الأحوال وبحسب المعايير الدولية كان ضعيفا للغاية, في حين كانت نسبة الأصوات الاحتجاجية مرتفعة, بحسب التقرير النهائي الذي أصدره فريق المعهد الديمقراطي الوطني للشؤون الدولية (أن. دي.أي) ومقره واشنطن حول الانتخابات المغربية التي سمحت السلطات المغربية بخضوعها لمراقبة المعهد.
فآلاف المغاربة اختاروا إسقاط ورقة بيضاء احتجاجية لتسليط الضوء على مسائل محورية أو اعراض يشكو منها النظام السياسي في المغرب رغم التحسن الملحوظ في الانفتاح السياسي والحريات العامة وقتها, مع أن واقع الإعلام في تراجع اليوم.
المنظمة ذاتها ستشارك أيضا من خلال وفد دولي في "مشاهدة" أو "ملاحظة" الانتخابات الأردنية إلى جانب مؤسسات عالمية معنية بتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان, وأيضا المركز الوطني لحقوق الإنسان وتحالف منظمات المجتمع المدني (راصد).
ثمة فرضيتان على الأقل تحاولان الإجابة على نزعة الاحتجاج الإيجابي, بحسب تقرير ال¯ أن.دي.أي. الأولى ترى أن الأحزاب السياسية ومرشحيها فشلوا في إقناع الناخبين ببرامجهم وبالتالي يتحملون مسؤولية ضعف النظام السياسي في البلاد. أما الثانية فتحمل المسؤولية لنظام الحكم في المغرب المرتكز إلى صلاحيات واسعة للملك ما يحد من سلطات الغرفة الأولى (مجلس النواب) المنتخبة في البرلمان. معطوف على ذلك آلية نظام الاقتراع الذي يشجع على تشتيت هذه السلطات ويؤدي إلى إضعاف نفوذ الأحزاب وتراجع ثقة الناخبين بمرشحي الأحزاب, بحسب ما يلحظ التقرير.
ويبدو في جميع الأحوال أن النظام السياسي الحالي يعمل على تكريس حالة الضعف التي تعاني منها التنظيمات السياسية والبرلمان, ما يزيد من حدة تراجع ثقة الناخبين بهذه الهيئات. ونتيجة لذلك "يبدو أن الناخبين عبروا عن عدم ارتياحهم لجمود الأوضاع ببلادهم عبر النسبة الكبيرة من الممتنعين عن التصويت وكذلك عدد الأصوات الاحتجاجية".
ويخلص المعهد إلى أن على السلطات المغربية إحداث إصلاحات سياسية واسعة, إن أرادت إشراك غالبية المواطنين في العملية السياسية, بما يعزز دور الهيئات المنتخبة ويمنح المنتخبين سلطات حقيقية فضلا عن تمتين الروابط بين الأحزاب والمسؤولين المنتخبين والهيئة الناخبة وصولا إلى تعزيز مبدأ المساءلة.
بالطبع ليس من صلاحيات المعهد الديمقراطي الوطني أن يحدد طبيعة الإصلاحات الواجب تنفيذها لتحقيق الأهداف المنشودة وضمان تحسين العملية الانتخابية التي قطعت شوطا كبيرا على درب المصداقية. فهذا أمر سيادي يخص الدولة المغربية التي تدرك الحاجة إلى ضرورة إعادة الثقة إلى المتخلفين عن التصويت يوم الاقتراع وكذلك الذين وضعوا أوراقا بيضاء احتجاجية كتعبير عن الاستياء من الوضع السياسي الحالي.
عودة إلى الوطن, حيث تصر الحكومة قولا وفعلا على أنها ستضمن عملية انتخابية حرة, نزيهة وشفافة على أمل إعادة الثقة بالمؤسسات وتعزيز هيبة الدولة بعد أن ساهمت الانتخابات الأخيرة في تلطيخ مسيرة الإصلاحات الديمقراطية الموعودة امتدادا لانكفائها عام ,1993 بعد أربع سنوات على أول انتخابات تشريعية شاملة منذ حرب .1967
في الجوانب الإدارية المتعلقة بالعملية الانتخابية, يحسب لحكومة الرفاعي أنها أدخلت عليها تحسينات كبيرة لضمان النزاهة وتغليظ العقوبات على الجرائم الانتخابية مثل بورصة الأصوات. لكن الحكومة لم تدخل أي تعديلات تمس جوهر الإصلاحات السياسية. لا بل أبقت نظام الصوت الواحد ورفدته بلغز الدائرة الواحدة (الوهمية) لمقعد واحد بدل نظام الصوت الواحد المجتزأ.
فهل ترسم الورقة البيضاء طريقا ثالثة لمن لم يفقد الأمل بالتغيير?
العرب اليوم