الهوية الوطنية ورياح الإصلاح السياسي
هذا الأسبوع, يسلم طاهر المصري, رئيس لجنة الحوار الوطني, إلى رئيس الوزراء معروف البخيت وثيقة المرجعية للإصلاح السياسي (الديباجة), من ضمنها قانون انتخاب بديل لكارثة "الدوائر الوهمية", وقانون أحزاب جديد.
بتسليم هذا التقرير النهائي, تلقي لجنة الحوار كرة نقل الأردن صوب الديمقراطية إلى حضن الحكومة ومجلس النواب.
الحكومة ستبلور بدورها صياغة توافقية حول أجندة الإصلاح السياسي ومساره المفترض, الذي رسمته لجنة طيفها متباين باستثناء التيار الإسلامي. بعد ذلك سترسل الحكومة التوليفة الجديدة إلى مجلس النواب لمناقشتها وإقرارها.
الاستنتاج الأهم لمراقب المشهد السياسي كان الحراك المصاحب لمحاولة تحديد الهوية الوطنية ومستقبلها, والتي تجلت بالانقسام بين مؤيدين ومعارضين للإصلاحات الدستورية والسياسية, أخذ أحيانا كثيرة منحى إقليميا ورفع منسوب القلق الشعبي.
فالحملة المضادة للتغيير, بمباركة رجال دولة محافظين, تطل برأسها مرة أخرى بعد أحداث دوار الداخلية. فمن تجرأ وطالب بإصلاحات سياسية بحدود ما عبر عنه الملك شخصيا وُصِمَ بأنه يعمل على تقويض أركان النظام وتغيير هوية الدولة تمهيدا لتنفيذ مخطط التوطين السياسي, مع أن القاصي والداني يعرف بأن ذلك مرفوض من الشعب الأردني بغالبية مكوناته وأصوله وفروعه.
لذا, يركّز مناهضو الإصلاح ومؤيدوه, على مداولات لجنة قانون الانتخاب لتقييم نوايا السياسات الرسمية تجاه مسألة الهوية الوطنية الأردنية وحدود الصياغات الجديدة.
مخاوف البعض, داخل اللجنة وخارجها, كانت بارزة وفي أحيان كثيرة مبررة. إذ تعمق إصرار على ضرورة البت في قضايا معلقة; منها دسترة قرار فك الارتباط (1988) وتوضيح آلية سحب الأرقام الوطنية (الجنسية) قبل الحديث عن حدود تغيير قانون الانتخاب.
في المقابل, يبحث الأردني من أصول فلسطينية هو أيضا عن هوية وممثلين داخل وخارج اللجنة ممن أوصلوا أصواتهم.
في الأثناء, تعكف لجنة ملكية أخرى برئاسة أحمد اللوزي على نحو أعمق واشمل على مراجعة الدستور, من منظور مستقبلي يتجاوز العودة إلى دستور 1952 بعد إلغاء التعديلات التي طرأت عليه, لتضيف بنودا تتعلق بالمجلس العالي لتفسير الدستور, المحاكم الدستورية وحقوق الإنسان, بحسب ما يرشح من قلب اجتماعاتها.
بعد عدة أسابيع سترفع هذه اللجنة مقترحاتها إلى الملك الذي سيضمنها أجندة الدورة الاستثنائية لتمر عبر قنواتها الدستورية. فتمرير الإصلاحات الدستورية يأتي أولا لارتباط مخرجات لجنة الحوار بذلك. وربما يمرّر مجلس النواب الحالي قانوني الانتخاب والأحزاب ذلك أن العودة إلى دستور 1952 تحدد أسس إصدار القوانين المؤقتة, المرتبطة بوقوع حروب أو كوارث طبيعية.
عمليا, لا يمكن التكهن بمآلات المخرجات المتعددة في ظل عدم حماس جهات رسمية لهذه الخلاصات وسط انطباعات بغياب الانسجام داخل المطبخ السياسي حول المضي بإصلاحات حقيقية وجوهرية لتطوير المعادلة الداخلية, قبل تسوية للقضية الفلسطينية. غياب التوافق قد يفتح الباب أمام محاولات تعطيل أو فرملة أي تشريعات/ سياسات في هذا الاتجاه.
كما في السابق, ستضغط هذه الجهات لتجفيل القصر من هكذا إصلاحات.
بعض الأجهزة الأمنية لا يعجبها الكثير مما جاء في ديباجة لجنة الحوار التي تحدد أسسا ومبادئ يجب أن تنتظم الإصلاح, بما فيها: سيادة القانون ودولة المواطنة, الفصل بين الأمني والسياسي بتحديد دور المنظومة الأمنية بصورة قطعية وحصرها في حدود عملها المهني بعيدا عن التدخل في تفاصيل الحياة العامة والسياسية. كما تؤشر الديباجة إلى احترام حقوق الإنسان وغيرها من القيم الأساسية الكونية مثل العدالة الاجتماعية, تكافؤ الفرص, بناء منظومة مستقلة للنزاهة والشفافية في محاربة الفساد التي باتت مطلبا شعبيا, سحب الجنسيات أو منحها فقط بقرار من مجلس الوزراء, التعليم كشرط أساسي للتنمية والتمكين البشري وحرية الإعلام مقدسة.
قوى التعطيل ستطالب بإجهاض عديد مقترحات حتى تستمر سياسة الأمر الواقع بما يضمن لها نفوذها ومنافعها ومكاسبها في الدولة القائمة على أسس ريعية.
الأيام المقبلة ستشهد بلا شك سجالا على عدة مستويات حول النظام الانتخابي الجديد, أساس عملية الإصلاح السياسي. سترتفع أصوات بأن التوصيات غير كافية, على قاعدة المثل الشعبي: "تمخض الجبل فولد فأرا" أو أنها لا ترضي الطموح الإصلاحي الوطني.
فهل نحن أمام فرصة نافذة حقيقية لتطوير المعادلة السياسية تمثل الحد الأدنى, الممكن البناء عليه لاحقا, أم أن الآية ستنقلب مرة أخرى لأن حسابات الحقل لا تتطابق مع حسبة البيدر?
جبهة المتفائلين ترى من زاويتها جملة عوامل موضوعية تساعد على شحذ عزيمتها وسط رياح التغيير التي كسرت حاجز الخوف لدى العرب ورسخت أهمية محاربة الفساد وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية في صنع القرار.
يشيد هذا الخندق بالدفع المعنوي الذي أعطاه الملك للجنة الحوار بعد "ملحمة" دوار الداخلية الشهيرة قبل شهرين بين قوى مناوئة للإصلاح ومطالبة به. حينذاك دق الملك على صدره وقال للمشككين بجدوى الاستمرار "على ضمانتي". ذلك الوعد أنهى الانقسام داخل اللجنة على الأقل, وأوقف مسلسل الاستقالات احتجاجا على خشونة فك اعتصام الداخلية ومحاولات تعطيل المبادرة الاستباقية للإصلاح السياسي.
ترى هذه الجبهة بأن اللجنة أنهت مهمتها بسلام وفي وقت قياسي. وتشير إلى الدور الايجابي الكبير الذي قام به دولة طاهر المصري ورؤساء اللجان في لملمة الأفكار المتناقضة, وتجسير الفجوة بين المصطلحات الفضفاضة, حواشي اللغة ومعادلات اللعب على الأرقام التي جاء بها عدد كبير من أعضاء اللجنة.
صبر "أبو نشأت", حنكته وخبرته لعبت دورا محوريا في دفع الجميع إلى التوافق وسط محاولة قوى الشد العكسي ورجال الطبقة السياسية من المحافظين المؤثرين رمي العصي في دواليبه والدفع باتجاه قانون انتخاب جديد لا يشذ عن النظام السابق والدوائر الوهمية لكن بصورة أكثر حضارية لضمان استمرار التدخل والتلاعب بالعملية الانتخابية من أولها إلى آخرها.
خرجت اللجنة بقانون انتخاب جديد سيساهم في دفن نظام الصوت الواحد المجزوء بعد عقدين تقريبا والعودة إلى قانون شبيه بنظام 1989 لكن بأسلوب يراعي حاجات التنمية الحزبية, السياسية والبرلمانية. المقترح الجديد فتح الطريق أمام الأخذ بمبدأ القائمة المفتوحة على مستوى المحافظة, إلى جانب قائمة رمزية على مستوى الوطن وبعدد لم يحدد بعد.
من الايجابيات الأخرى إقرار اللجنة لمطالب قوى سياسية, شعبية ومجتمع المانحين الأوروبيين أبرزها إنشاء هيئة عليا للإشراف على الانتخابات, والطعن في نتائج الانتخابات أمام القضاء وليس في مجلس النواب, إضافة إلى تعديلات أخرى تتصل بإجراءات عملية الاقتراع لرفع منسوب النزاهة والشفافية بعد حفلتي تزوير انتخابات 2007 و ,2010 اللتين أجهزتا على ما تبقّى من هيبة للدولة وشرعية برلمان.
وهناك قناعة لدى هذه الأوساط بأن أي مماطلة في التنفيذ ستعيد الوطن إلى أجواء الشحن التي سادت قبل تشكيل اللجنة, بخاصة إذا تعمقت الأزمة الاقتصادية وتناسل عجز الموازنة.
في المقابل, لم تتبدل المشاعر داخل خندق المشككين المؤثرين, وهم كثر, حيال مخرجات لجنة الحوار الوطني. الحركة الإسلامية كانت تتطلع إلى قانون أكثر تطورا, لكنها لا تستطيع الشكوى لغير الله لأنها فقدت فرصة التأثير على مخرجات اللجنة بسبب مقاطعتها لها, مع أنها أسمعت صوتها من خلال شخصيات متعاطفة معها داخل اللجنة. هناك من يعتقد بأن منح الحكومة حق تحديد عدد مقاعد قائمة الوطن غير مشجع. ففي حال اعتمد 12 مقعدا, بحسب التسريبات, ستحصد التيارات المنظمة, تحديدا الإسلاميون, حصة الأسد ولن تتشجع شخصيات سياسية مستقلة لبناء تحالفات ذات قيمة ومعنى بما يعطي زخما ونكهة للعمل السياسي. كان أعضاء في اللجنة يسعون للوصول إلى 50 مقعدا على قائمة الوطن.
وهناك تخوف من نفوذ ماكينات التعطيل والفرملة إياها إضافة إلى مؤثرات إقليمية غير ايجابية في حال تعطلت العملية الانتقالية في مصر وتونس, ولم تحسم المواجهات الدائرة في ليبيا, اليمن وسورية لمصلحة المطالبين بالإصلاح.
والاهم أن غالبية الأردنيين تطالب بالخبز وفرص العمل, وحياة معيشية أفضل. فالخيار الديمقراطي لا يشكل أولوية لدى الرأي العام ما يساعد على تشتيت المطالب الإصلاحية.
إذاً السجال سيستمر بين من يعتقد بأن هناك هوية واضحة للدولة ومن يرى أن هذه الهوية لم تتشكل بعد, وآخرين يقرّون بصعوبة صياغتها نظرا لظروف داخلية وخارجية يرتبط معظمها بالعلاقة الأردنية-الفلسطينية, مشاريع إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعودة من هم خارج أراضيها إليها.
ولن تحسم معركة الهوية في غياب أدوات سياسية وشعبية لدى الدولة تسمح لها بفتح ملف الهوية الوطنية والتعامل معه على أساس وطني, وإقناع طرفي المعادلة بأن البت في هذا الموضوع الآن يأتي في سياق مواجهة المخططات الإسرائيلية ضد المملكة والقضية الفلسطينية معا, وليس بسبب رغبة في تصنيف المواطن إلى درجة أولى وثانية وثالثة.
فمخرجات لجنة الحوار فيما يتعلق بشق قانون الانتخاب تدل بوضوح أن الدولة غير معنية بالتوطين السياسي, بخلاف مطالب الغرب, حتى لا تذوب الهوية الفلسطينية في الهوية الأردنية لتعكس هوية جديدة.
لذا, فإن نسب قائمة الوطن بحدّها الأقصى 15 تعني عملية "تجميلية زائد". أما قبول 50 كحد أدنى فكان سيعني بالتأكيد أن مكونات الدولة الرسمية تشجع السير نحو التوطين السياسي, ما قد ينذر بتفجر حرب أهلية لا سمح الله.
بالطبع تبقى المعضلة الكبرى هوية الفرد وليس هوية الدولة.
والمهم اليوم أن نتفق على تحديد أسس الدولة المدنية, أو دولة القانون وتعزيزها لتستوعب جميع المكونات ما دامت الدولة الأردنية غير قادرة أو جاهزة للتعامل مع "فخ الهوية" قبل فك طلاسم العلاقة الأردنية-الفلسطينية الداخلية.
فهناك دول سبقتنا إلى ذلك. دول تضم مجتمعاتها "ثنائيات" و"ثلاثيات" - أصل, فصل وأعراق عبر مأسسة دولة المواطنة والقانون. فعسانا نحتفل بعيد الاستقلال السادس والستين ونحن اقرب إلى ذلك.