الهجرة.. بحزام ناسف
ثمةَ مَنْ يرتدي حزاماً ناسفاً، أو يقودُ سيارةً مفخّخة، ليهاجرَ إلى بلادٍ أخرى. لا يُمْكِنُ منعُ هذا العبورَ. لا تُجدي التقنيةُ الأمنيةُ المتطورة، ولا التنظيرُ في قوانين الصراع. إنها الهجرةُ إلى الافتراض الذي أبدعَ العقلُ الدينيُّ في تصويره، وتأثيثه بالخيال، طريقاً للخلاص والنجاة، وليس مجرّدَ مكافأةٍ على عملٍ وعبادة.
هاجرَ ملايين الباحثين عن العمل والجنسية والعدالة الاجتماعية في القرن الماضي، ولا يزالون، من بلدانهم العربية والإسلامية إلى دولٍ علمانية، وجدوا فيها الأمنَ والعدالةَ والرزق والكرامة الانسانية، أي أنهم وجدوا جنتهم على الأرض، وغالبيتهم تكيّفَت، ثمّ اندمجَت، وباتَ الأبناءُ والأحفادُ مواطنين في بلادهم الجديدة، وكان منهم العلماء والأدباء ورؤساء الدول، ثم كان منهم ضحايا الخرافات القادمة من أوطانهم السابقة، إلى أنْ غيَّرَ الدينُ السلفيُّ الجديدُ مفهوم الهجرة كلّه، ونزعه من معناه وحاجاته الإنسانية، فباتَ انتقاماً، يُعَّرفُ بـ"الجهاد في سبيل الله": طريقهُ الانتحارُ، وثمنهُ الجنة.
يُهاجرُ المتديِّنُ بنصٍّ وفتوى. يتديَّنُ مدمنُ الكحول والمخدرات، فيرى الهجرةَ عِنْدَ عبور حاجز التوبة، فينتحر. يتبعهما لصوصٌ ومغتَصِبون في الطريقِ ذاته. لا يجدُ المنتحِرون الحياةَ مُمكنةً ومُغريةً، فيذهبون إلى أقصى الموت، ويأخذونَ معهم بشراً غافلين، كانوا يحتفلون، أو يتسوقون، أو يستمعون إلى الموسيقى. أقصى الموت في الأمنية والتنفيذ أنْ يأخذَ المهاجرُ أحياءً، كانوا يعيشون معه في البلد والحي والشارع إلى نهايةٍ، يبدأ بفضلها حياةً ثانية في جنّاتٍ، لا حدودَ لملذاتها وأبديّتها، فيما هم في جحيمٍ مُطلق.
الذهنُ الإسلاميُّ السلفيُّ استثمرَ في هذا القطاع المُربح، بعد خساراتٍ متتالية في صلاحية النظرية الدينية لإدارة شؤون الحياة، كما هي "ممرٌّ، لا مستقر". حفَرَ عميقاً في تأويلِ النصّ، وقلَّبَهُ، ولم يُخضعهُ لقراءة تاريخية، أو أيّ فهم نقدي، وقد عثَرَ فيه على ما يريد، فكانَ تأويلُ الموت على هذه القداسة، وعلى إيقاع ذلك الْحُلْم، وكانت هذه الشروطُ المطلوبة للهجرة إلى الآخرة، على هيئة مُجاهدين انتحاريين، يتوجّهون مباشرةً إلى جنة الأحلام الموعودة، وأجملُ ما فيها تحليلُ المُحرَّم الدنيويّ، والترغيبُ به مكافآتٍ مُضاعفة، في حينَ تحقق حرمانُ الخصوم منه، بل ونالوا أبعدَ من المتخيَّل في العذاب.
هل كان متاحاً وقف هذه الهجرة القبيحة، أو إدانتها على الأقل، لو كان هناك اعتدالٌ إسلاميٌّ، يشتغلُ بإصلاح الفقه، وتحديثه. ربَّما يتعلّقُ السؤال تحديداً بشجاعة اقتحام الاجتهاد في مصطلح "الجهاد" الفضفاض والشائك، المتعدد في أنواعه، ودلالاته. هَلْ ما يزالُ "جهادُ الطلب" مشروعاً ومقبولاً، كما كان. هل يحقُّ لمسلمٍ الآن أنْ يُبشِّرَ بالإسلام بالقوة، أو ينتقمَ من غير المسلمين بقتلهم، عقاباً لهم على رفض الإسلام وتعاليمه. فالشاهدُ أنَّ التنظيمات الإرهابية استندت إلى "جهاد الطلب" في حربها على العالم. ثمَّ من هي المؤسسة الدينيةُ المؤهَّلةُ والشجاعةُ والقادرةُ على تعطيل الجهاد، وقد بات عبئاً ثقيلاً على المسلمين، ومستقبلهم.
هل نشهدُ جرأةً واعتدالاً على جملة دينية معتدلة في تعطيل الجهاد، وتحريم تطبيقه، أَمْ أنَّ تطبيق "داعش" سيظلُّ أكثرُ التطبيقات وضوحاً وتوحشاً واستثماراً في الجهاد، وفي الرضى المستتر في أوساط التديُّنُ العامَّة، مع بعض الارتباك في بعض أنواعِ الهجرات قليلاً، والانتقائية في قبولها أو رفضها، تبعاً للزمان والمكان والضحايا. يُصبحُ الدواعشُ "أَهْلَ قِبْلَة، لا يجوزُ إخراجهم من الملّة" حينما يقتلون المسلمينَ الشيعة، ويُوصفون بـ"الخوارج" عندما يُعدمونَ المسلمينَ السُنّة. أمّا، حينما يهاجرون منتحرين في الغرب "الصليبيّ الكافر".. فلا بدَّ من تذكير العالم بالاستعمار.. وأحياناً بالأندلس.
- باسل رفايعة: صحافيّ أردنيّ، عمل في صحف يومية محلية، وعربية.