المُغلّف الأصفر
لم أصدّق أنني حصلت على تأشيرة دخول إلى أميركا، تخيّلت أن يرفض طلبي بسبب ما يتداوله النّاس، كانوا يقولون إن الحصول على الفيزا صعب ويعتمد على الحظ، وكانت أكثر القصص تداولاً عن ذلك الشاب الذي لم تكن لديه نيّة للحصول على فيزا، لكنه ذهب مع صديقه الذي استعد جيّداً للمقابلة وأحضر معه كل الأوراق اللازمة، إلا أن طلبه قد رفض، فيما حصل هو على تأشيرة لمدة خمس سنوات.
يا لهذه القصص، يكفي أن تتبادل الحديث مع سائق تكسي في البلاد لتسمع عشرات القصص المشابهة، ستشعر بأن السفر إلى أميركا من المستحيلات، وستبقى عبارة عن حلم مشروع مليء بمقاطع أفلام الغرب الأمريكي الساحرة، ولن يأتيك منها سوى حكايات النّاس وأسماء المدن والولايات، أو ربما حكاية عن إحدى الفتيات المحظوظات التي تزوجت من شاب عائد للتو من هناك.
ما زلت أذكر ذلك اليوم الذي وصلني فيه مغلف أصفر جميل إلى مكان عملي من السفارة الأمريكية في عمّان، كان يوماً غريباً للغاية، كنت قد خرجت للتو من نقاش سخيف حول ظروف العمل في المؤسسة التي كنت فيها محرراً للأخبار المحلية، تلك الأخبار التي تبدو الآن أسوأ بعد مرور كل هذه السنوات، شعرت حينها باغتراب شديد، وبأن الأرض التي أقف عليها لم تعد تتسع حتى لفكرة تأتي من خارج قاموس المألوف.
استمتعت بفتح المغلف الأصفر الجميل، فتحته بعناية فائقة، قلّبت صفحات الجواز وعثرت على تأشيرة الدخول، وعلى الفور ذهبت إلى أحد الزملاء الخبراء بتأشيرات الدخول إلى أميركا، ليفسر لي معني الرموز المكتوبة عليها، وما هي إلا لحظات حتّى انتشر الخبر بين الزملاء، لقد فعل المغلف الأصفر فعلته، وصار موضوع الحديث في غرفة الأخبار!
في اليوم التالي، قدمت استقالتي وحجزت تذكرة السفر إلى أميركا، اعتقد زملائي بأنني تسرعت، كان منهم من يعتقد بأن المؤسسة عبارة عن مركز اهتمام الكون، وكنت على قناعة بأنهم على خطأ، وأن العالم أوسع مما نعتقد وأكبر مما نظن، ثمّ طرت إلى هنا دون مراسم وداع تليق بهذا الانعطاف المفاجئ والكبير في مسيرة حياتي.
وصلت إلى مطار "أوهير" في شيكاغو، وقفت في طابور طويل مع ناس من مختلف جنسيات الأرض، كان القلق واضحا على ملامح الجميع، ربما كانوا يفكرون في إجابات ذكية على الأسئلة التي يمكن أن يطرحها ضابط الهجرة، وكان معظمهم يحتفظ بورقة مدون عليها العنوان الذي سيقيم فيه.
في الحقيقة لم أكن أقاسمهم القلق ذاته، كان لدي قلق أكبر بسبب ضعفي في اللغة الإنجليزية، حاولت خلال رحلتي وفترة وقوفي في الطابور تذكر كل معاني الكلمات التي حفظتها أيام المدرسة، كانت قليلة وغير كافية وكنت متأكداً بأنها لن تنفع، بدأت من الدرس الأول: باب، شباك، كرسي، مدينة، ولد، بنت، بستان.. وهكذا حتّى وجدت نفسي وجها لوجه مع ضابط الهجرة، نسيت كل الكلمات البائسة بألفاظها الركيكة.. ثمّ ابتسمت.
يا للكارثة، سألني بالإنجليزي، لعنت في سرّي مدير المدرسة ووزراء التربية والتعليم وأساتذة اللغة الإنجليزية وحتّى بائع الهريسة.. لا أعرف كيف تمكنت من التخلي عن ملامحي الجادة آنذاك. على أي حال، أعطيته جواز سفري مع المغلف الأصفر إياه ثمّ ابتسمت مرّة أخرى، وحين وجده فارغاً ما كان منه إلا أن دخل في غيبوبة من الضحك!
إنها أميركا يا عزيزي؛ حيث ينقذك مغلف أصفر فارغ من موقف صعب، ويأخذك إلى الطرف الآخر من الأرض، وحيث ينمو الحنين تارة في أغنية وتارة أخرى في قصيدة.