المهنة: داعية
هذه مهنةٌ، لا مسار لها في العلوم الإدارية، ولا تُنظمها دوائرُ المواردِ البشرية، فلكلّ مهنةٍ وصفٌ وظيفيٌّ، يتفرّعُ عنه مُلخّصٌ عام، ومسؤولياتٌ وواجبات وشروط، وكلّ ذلك يتطلبُ مهاراتٍ وقدراتٍ ومعارفَ أساسية، وهي متروكةٌ لمن يشاء، باعتبارها دوراً دينياً، يستمدُّ شرعيته من محتوىً مُقَدَّس، تتراجعُ إزاءه قدرةُ الدولة على التنظيم.
أئمةُ المساجدِ دعاةٌ، وكذلك الخطباء، والوعّاظ، والمفتون، وأساتذةُ الشريعة، وقادةُ الإسلام السياسيّ، وهؤلاء جميعاً موظفون مُصنّفون، بمعايير معينة، لدى وزارة الأوقاف، أو في الجامعات، لكنَّ البعدَ التنظيميّ غائبٌ تماماً، والأدوارُ متماهية إلى الحدّ الذي يؤهّلُ إمامَ مسجدِ، ليكون مُفتياً، يستثمرُ عمله في حقول الفقه والأحكام الشرعية، وما يترتب على ذلك من حظوةٍ اجتماعية، والأهم ما يُنتجه من مضمونٍ دينيٍّ، باتَ يمتلك حصانة من النقد والمراجعة والنقاش، خصوصاً حين يُوظّفُ النصوصَ القرآنية، والأحاديثَ النبوية، كما تُتيحُ له معرفته البسيطة، التي أهّلته أساساً لعملٍ محدد في إمامة الصلاة، وَلَيْسَ ليكونَ داعيةً، يمارسُ مهمةً تبشيرية، بما يعتقده، ويراه، ويؤمنُ به.
الدعاةُ الآن، خارجَ المؤسسة الدينية، وفي داخلها، يقودون الشارعَ المتديّن، ويعبثون بحاجة الناس إلى فهم مسائل بسيطة في الفقه والتشريع والعبادات. توهّموا الوظيفة، مع ضبابية ملامحها، وذهبوا إلى تسييس الدعوة، وتصنيفها ضمن مرجعياتهم الأصولية والسلفية، ومكّنتهم المنابرُ الحديثةُ في الفضائيات، وشبكة الانترنت، ووسائل التواصل الاجتماعيّ من السيطرة على رأيٍ عام، ضربه اليأسُ والإحباطُ والتجهيل عن البحث عن حلولٍ، في مساحاتٍ أخرى.
المهنة: داعية. وهذه تستقطبُ جمهوراً، ينافسُ جمهورَ المطربين، سواءً في حضور المحاضرات، التي يُمْكِنُ وصفها "حفلات دعوية"، عندما يَكُونُ المحاضرُ داعيةً مثل محمد العريفي، على سبيل المثال والمقارنة والأداء المسرحيّ. العريفيّ خريج جامعة إسلامية، ولم يكتفِ بالتدريس، فهناك فضاءاتٌ تجاريةٌ، تُدرُّ أرباحاً كبيرة، لا يوفرها راتبُ الأستاذ الجامعيّ، ومثله في الأردن أستاذ الشريعة في الجامعة الأردنية أمجد قورشة، في نفوذه على البرامج التلفزيونية، وغيرها. في المقابل، فإن عمرو خالد محاسبٌ، درسَ تخصصه، ولم يجده مجدياً مالياً، وقِسْ عليهم مهندس البترول الكويتي طارق السويدان، والطبيب عبدالرحمن السميط. وهم، وغيرهم، فعّالون في هذه المهن التجارية البحتة.
الداعية يستولي على الوظائف، بكامل صلاحياتها وسلطاتها، يَؤمُ النَّاسَ في الصلاة، ويحاضرُ في دروس المساجد، وله أنْ يُفتي، ويخطبَ الجمعة، ومنهم مَنْ يمارسُ الرقيةَ الشرعية، وبعضهم، يقرأُ على ماءٍ، فيشتريه النَّاسُ للتداوي من الأمراض، عوضاً عن الذهاب إلى الأطباء. وحين يُحاطون بكلّ هذه الهالة، يسهلُ الوصول إلى الهدف المطلوب، وقد انتهت هذه المرحلةُ إلى ملايين المعجبين والمتابعين الجاهزين للتعبئة والخديعة.
إنها تسيسُ الدين، وتحويله مركزاً للحشد، والاستمالة، والتنظير للتطرف والتكفير والرفض، وقد خلصَ الدعاةُ من ترغيب النساء بالنقاب، وتحجيب الصغيرات، وتحريم الاختلاط، والغناء، والموسيقى، فآن الأوانُ للخوضِ في جوازِ أكل طعام المسيحيين، وتهنئتهم بأعيادهم، والحديث عن "جهاد الطلب" و"جهاد الدفع" و"الولاء والبراء" والخروج على المجتمعات الكافرة. وَكَانَ ما كانَ، إلى أنْ امتدح داعيةٌ "داعش"، وقال آخر إن "الملائكة تقاتلُ مع المجاهدين في سورية". وفي غفلة السلطات الأمنية، أو ربما في تواطؤ بعضها، ساهمَ الدعاةُ في تجنيدِ الشباب، ودفعهم بالفتاوى إلى أحضانِ الجماعات الإرهابية.
الدولة التي تخافُ من تصنيفِ هذه المهنة، وإخضاعها لقوانين العمل، قبل الأوقاف، تُسْألُ، قَبْلَ غيرها عن توابعِ هذا الخراب، وهذه الفوضى، وتبعاتها. أصرّتْ على دورها الدينيّ، وفشلت في إدارته، عندما فتحت منابرها الرسمية، لما توهّمته اعتدالاً، ولما ظنّت أنه يساعدها على ضبط إيقاع منافسيها الأكثر تنظيماً وذكاءً في جماعات الإسلام المسيّسة المرابطة في الأحزاب، والنقابات، واتحادات الطلبة، وعند صناديق الاقتراع. تُسألُ عن هؤلاء الذين لم ينجح معهم قانون الوعظ والإرشاد، وعن الذين لم ينجحْ معهم غيره..
- باسل رفايعة: صحافيّ أردنيّ، عمل في صحف يومية محلية، وعربية.