المغيّب في تاريخ الأردن

المغيّب في تاريخ الأردن
الرابط المختصر

 

غالبية المعارضين، من داخل الحكْم في الأردن، قادتهم مصائرهم إلى أن يصبحوا في صفوف الموالاة بلا تمثيل شعبي لهم في حال عودتهم إلى حضن السلطة، أو جرى التعتيم عليهم إذا لم يعودوا، وربما أطلقت حولهم الشائعات لتنال من صورتهم ومنجزهم، وكلا الصنفين غيبوا عن المناهج الدراسية، ومن الرواية الرسمية التي لا تزال تعتمد صيغة الإجماع المطلق حول النظام في الحديث عن تأسيس الدولة الأردنية.

 

أثارت انتباهي مساجلة غازي رفعت عودة، ابن المعارض المعروف، مع بكر خازر المجالي في موقع عمون حول دور والده في إحدى محاولات اغتيال الملك عبد الله بن الحسين من دون الوصول إلى نتيجة حاسمة تعني أحداً بالنظر إلى انعدام الاهتمام بتاريخنا، لكن المدقق في ردودهما يصل إلى خلاصات قد تبدو ضرورية في يوم من الأيام.

 

يرتبط اسم رفعت عودة بانقلاب صادق الشرع الفاشل عام 1959، لعلاقة وثيقة جمعتهما، وقد حُكِم عليهما بالإعدام، إلى أن صدر عفو أخرجهما من السجن عقب سنوات، ولا تزال تفاصيل الانقلاب غامضة بعد مرور 56 عاماً على حدوثه، بل إن هنالك روايات جادة تشير إلى عدم حصوله من الأساس، وأخرى تشير إلى إنه خلاف بين قادة الجيش، من الصف الأول، أودى إلى الإيقاع باللواء الشرع.

 

غموض يكتنف تفاصيل "انقلاب 59"، ويتكرر مع معظم المحاولات الانقلابية والاغتيالات الموجهة ضد ملوك وأمراء هاشميين، مقابل وضوحٍ في التعامل مع نتائجها، فالشرع انتقل من مدير هيئة أركان إلى السجن، وخرج منه إلى الكويت، حيث عمل سبع سنوات هناك، ثم عاد لاحقاً، وتقلّد مناصب حكومية، محافظاً ووزيراً، وعاش طوال حياته يؤكد ولاءه للعرش من دون أن يجرؤ على قول كلمة واحدة تتعلق بتلك اللحظة، التي أنهت مستقبله رجل دولة، وحوّلته إلى موظف لديها.

 

في المقابل، غادر رفعت عودة، طبيب العيون المعارض، السجن ليقضي أغلب أيامه خارج الأردن، وظلت حياته رهينة التباس متعمد، بل يؤتى على اسمه متهماً، في الذكرى الـ64 لاغتيال عبد الله بن الحسين، في مقالٍ لباحث –قريب من السلطة- ولا يحظى برواية تنصفه، إنما تُختصر حياته بشهادة يتيمة قدّمها مدير مباحث العاصمة في حينها!

 

المشترك ما بين معارض من داخل النظام مثل صادق الشرع، وآخر من خارجه مثل رفعت عودة، هو عدم وجود رغبة رسمية بتوضيح مرحلة أساسية من حياتهما، مثلما حصل مع معارضين غيرهم، بل ينطبق هذا المنطق على بعض أفراد العائلة المالكة، لنواجه ثغرات أكبر، في تدوين تاريخ الأردن المعاصر، لم تشغل بال الحكْم يوماً، مثل غيره من الأنظمة العربية.

 

ملاحظة ليست عابرة أوردها المجالي في مقالته، بأن دار الوثائق البريطانية تحفظت على السجلات المتعلقة بحادثة الاغتيال لخمس وعشرين سنة مقبلة، بينما كان من المفترض الإفراج عنها هذا العام، وهو ما يبعث على الاستغراب أيضاً، إذ لا أسباب معلنة وراء "التحفظ" البريطاني.

 

لا يقتصر الاختلاف على واقعة مثل انقلاب الشرع، فالكل يعلم أن المفاصل الرئيسية في نشوء المملكة جرى توثيقها بالطريقة ذاتها، التي تحكم نظرة السلطة إلى تاريخنا، وغني عن القول إن تاريخ الدول يخضع إلى تقييم دائم من قبل شعوبها من أجل فهم حاضرهم والمستقبل، وقد يتطور الحال إلى محاكمة جذرية إذا تفاقمت الأزمات السياسية والاقتصادية، وأحس كل مواطن أن "البنيان الاجتماعي" الذي تشكله دولته لم يعد يعبّر عنه، ويمثّل مصالحه.

 

لا قيمة للرواية الرسمية التي تؤرخ للأردن إذا لم تُوضع بجانب غيرها من الروايات على قدم المساواة، وتقبّل الجميع تعدد وجهات النظر في تأريخ ماضيهم القريب والبعيد كذلك، وبخلاف ذلك سيظل المستتر والمسكوت عنه والمغيّب حاضراً، وإن لم يطف على السطح.

 

  • محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.
أضف تعليقك