المرأة، الساموراي، الجنّة، داعش

المرأة، الساموراي، الجنّة، داعش
الرابط المختصر

 

 

"إشرَبْ أنتَ أولاً يا سيّد. أخشى أن تتعكّر المياه عندما نمد أيدينا إليها. بعد أن تشرب النساء يصبح الينبوع مدنّساً."

جاء هذا الاقتباس من قصة للياباني الحائز على جائزة نوبل للآداب، ياسوناري كاواباتا، عام 1968، والمنتحر بعد مضي أربع سنوات على تكريمه، وقد بلغ الثالثة والسبعين. لو أنّ جملة تحمل هذا المعنى المباشر وردت في قصة تستعيد زمناً غابراً، حيث تحتلّ الأسطورة مكانة أساسية في حياة شعبٍ ما، لاستطعنا قبولها بوصفها جزءاً من الميثولوجيا. غير أنّ كاواباتا كان يسرد أحداثاً في ريف بلده، والأرجح أنه كتبها في ثلاثينيات أو أربعينيات القرن الماضي. أي عن مرحلة انخرطت اليابان حينها في التحديث تصنيعاً، وتمديناً، وأسلوب حياة إنتاج. مع معرفتنا بأن الشعب الياباني، في الوقت نفسه، يكِنُّ إجلالاً كبيراً لموروثه العقائدي والمفاهيمي وما يتعلق بالعادات الاجتماعية. ولهذا، أجدني ميّالاً لرؤية الشخصية اليابانية على مستويين:

 

* شخصية قادرة على مجاراة التطورات الحاصلة عبر الزمن، في مجالات عِلمية عَملية نفعية تؤدي وظائف ترتقي بالمجتمع والدولة ككل. تفعل ذلك ولا تتحرج من أن تحتذي بنماذج الغرب المتقدم. تقوم بتنظيم وإعادة ترتيب أولوياتها لتكون جديرة بولوج عالم التنافس الصناعي كعملاق، حتى وإنْ دفعها طموحها لأن تشن حرباً تناطح فيها "المارد" الذي أيقظته في "بيرل هاربر" – الولايات المتحدة. ثم ما لبثت أن سددت الثمن باهظاً في قنبلتي "هيروشيما" و"ناكازاكي" الذريتين!

 

* شخصية أخرى، باطنية، تختزن في أعماقها روح البوشيدو/ الساموراي (تأمُل يقارب البلوغ الصوفي والصفاء النفسي، تصاحبه فنون القتال النبيل) الطابعة لليابان ثقافةً ورؤية وروحاً قومية، وتكاد تؤلِّه الامبراطور، وتجعل مسافة ملحوظة بين الرجل والمرأة لم تُردَم نسبياً، ربما، إلّا في نهايات القرن الماضي. ويمكن لنا معاينة هذا المآل في روايات هاروكي موراكامي المولود عام 1949، حيث يتجلّى فيها نمط الحياة الغربية المتغلغل لدى أجيال ما بعد الحرب.

 

ولعلّ قارئ روايات جيل كاواباتا، ويوكيو ميشيما من بعده (المنتحر عن خمسة وأربعين عاماً وفق طريقة سلفه، بالسيف على طريقة الهيراكيري عام 1970، أي بعد سنتين على انتحار الأول)، ويقارنها مع روايات موراكامي، سيعثر على التحولات التي ضربت المجتمع الياباني إثر الهزيمة والتدمير، والروح المنتفضة ضد الهيمنة الأميركية المتغطرسة وقد عبّر عنها هذان الكاتبان كلٌّ بأسلوب حياته، ولكنهما أنهياها وفقاً لـ"الطراز" الياباني الواحد الذي لا يتغيّر: طَعْن البطن بالسيف، والانحناء عليه حتى الموت!

 

كرامة الموت لا تنفصل عن كرامة الحياة. فإنْ لم نستطع المحافظة على الثانية بعيشها؛ فالأجدر أن ننهيها بالأولى!

على هذا النحو تكون قراءتنا لانتحار اثنين من كِبار أدباء اليابان: العيش بكرامة، و/ أو الموت بكرامة.

 

*   *   *

 

إنّ مجتمعاً ينهض ببلده من وسط أنقاض دمار شامل، ويعود لينافس "المارد" المتغطرس بانتصاره العسكري، ويقارعه صناعياً في عقر داره؛ هذا المجتمع قادر علىتزويدنا بآليات فهم ما بدا لنا "تناقضاً فجّاً" في بُعدي شخصيته: الأخذ بأرقى التكنولوجيات وتطويرها من جهة، وعيش روحانيات البوشيدو ومجابهة تحديات الحياة بِنُبْل الساموراي.

 

عندها؛ لا يعود"تدنيس النساء لمياه الينبوع إذا ما شربوا منه قبل الرجال" مسألة صالحة لقياس مدى تحضّر المجتمع؛ ما دام الأمر ينحصر في دائرة احترام الطرفين لبعضهما، دون الحطّ من قيمة أحدهما استناداً إلى هذا. أو العمل على إذلال الرجل للمرأة بتسويغٍ من موروث يتسم بالتوقير والإجلال.. وأحياناً بالقداسة، كما هو الأمر ماثلٌ في "ثقافة" دينية جاهلة مأخوذة بالتفكير الخُرافي على نحو صريح! صريح وصادم بحسب شهادات المقاتلات في وحدات حماية الشعب الكردي، إذ تفيد:

 

"يخشى مقاتلو داعش مواجهتنا نحن النساء! إذا اشتبكنا في معركة، سرعان ما يهربون لأنهم، في حالة موتهم خلال القتال، لن يذهبوا إلى الجنّة كونهم قُتلوا على يد امرأة."!

*   *   *

 

في اليابان، لم تعد المرأة سبباً في تدنيس الماء لو شربت منه قبل الرجل.

في بلداننا، لم تعد المرأة "عورة" يجب حجبها وتحجيبها فقط؛ بل إنها قاذفة بالرجل من نعيم الجنّة إلى جحيم الأرض -بحسب أسطورة آدم وحواء! وبالعكس - في خرافات داعش: تقاتله على الأرض، فتقتله، فتحرمه من العودة للجنّة والتمتع بحوريات اللذائذ الموعودة!

 

إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.