المحطة التالية... لبنان وليس الأردن
لا فراغ رئاسياً في لبنان، بل لا حاجة للبنان بالرئاسة أصلاً، بعد أن انتفت عنه صفة الدولة، وصار ولاية من ولايات “الدولة الإسلامية”، يتولى إمارتها نيابة عن خليفة المسلمين، الأمير عبد السلام الأردني، كما أوردت مصادر الجماعات الجهادية، ونقلت عنها صحف لبنان و وسائل إعلامه.
ليس في الأمر “كوميديا” لا سوداء ولا بيضاء ... فالوالي الجديد الذي انتدبه أبو بكر البغدادي، سيجد بيئة حاضنة له في مناطق وأحياء لبنانية عديدة، وسيجد جوقة من “العلماء” و”الجهاديين” الذين سيبايعونه على السمع والطاعة، سراً وعلانية ... وليس صدفة أبداً أن يتزامن تعيين “الأردني” أميراً على لبنان، مع “انتفاضة” هيئة علماء السنة، وإشهارهم لائحة مطالب “أهل السنة والجماعة”، بل وتبشيرهم بانتفاضة سنية لبنانية، تستكمل ما بدأته “داعش” والنصرة” في سوريا والعراق، وتبني على إنجازات “غزوة نينوى”.
وانتفاضة هيئة العلماء، هي التعبير السياسي/ الإيديولوجي، عن مسلسل التفجيرات التي ضرب ويضرب في لبنان، وهي الرديف للنشاط الكثيف للشبكات والخلايا والانتحاريين الذين يجوبون البلاد طولاً وعرضاً، بحثاً عن أهداف رخوة وصلبة، فالمعركة في لبنان وعليه، تستكمل المعارك في سوريا والعراق وعليهما ... وما يفعله الانتحاريون في الحالة اللبنانية، يجرى تثميره سياسياً بالحديث عن “مظلومية أهل السنة”، والتقدم بلائحة مطالب لا تستهدف “حزب الشيطان” أو “حزب اللات” فحسب، بل وتطاول المؤسسة العسكرية والأمنية والقضائية اللبنانية، أي تستهدف عصب الدولة اللبنانية الذي يُراد إعطابه، من أجل فتح الطريق أمام التحاق ولاية لبنان بالدولة الوليدة وتحت مظلة “خليفة المسلمين”.
هو السيناريو ذاته، يُعاد انتاجه في الظروف الخاصة والمتعينة لكل دولة من دول المنطقة ... في العراق كلام حق عن “مظلومية السنة” يراد به أشياء أخرى ... وقبلها في سوريا، وبعدها في لبنان، ولا ندري أين ستصل حلقات هذا المسلسل الدامي أو كيف سينتهي؟!
الانتحاريون/ الاستشهاديون/ الانغماسيون، يقومون بما يتعيَّن عليهم القيام به في الميدان، من توجيه أشد الضربات لعصب الدولة ومؤسساتها الأمنية والعسكرية، وخلق مناخات من “الفوضى البنًّاءة”، تسمح بتمدد الفراغ والشغور” اللذين تملأهما الحركات الجهادية ... ثم يأتي دور “العلماء” في التغطية والتنظير والتبرير، ثم تلحق بهم قوافل السياسيين والمثقفين والكتاب، حتى “الليبراليين” و”اليساريين” منهم، لتحصد النتائج، وتسعى في تكبير حصة هذا الفريق من كعكعة السلطة والثروة ... أليس هذا ما يحصل في العراق اليوم، ولماذا لا يعاد إنتاجه في لبنان كذلك، طالما أن الأمر يمكن أن ينجح؟
في البيئات المنقسمة مذهبياً، يجد هذا السيناريو رواجاً كبيراً ... إذ حتى الذين لا يشاطرون الجهاديين جهادهم ومعتقداهم، لا يمانعون بتوظيف هؤلاء واستثمار ما يحدثونه من فوضى وتهديد، من أجل انتزاع المزيد من المكاسب، أو تصفية الحسابات مع الخصوم في الوطن أو الإقليم ... لكن فرص نجاح هذا السيناريو في المجتمعات الأكثر تجانساً من الناحية المذهبية، تبدو ضعيفة، إذ يتعيَّن على هذا المدرسة في التفكير والتدبير، أن تجد مناصرين لها على أسس عقائدية، وهؤلاء سيظلون أقلية ضئيلة، مهما تعاظم عددهم أو ازداد خطرهم.
لهذا نرى أن لبنان -وليس الأردن- هو المرشح لأن يكون الحلقة التالية في مسلسل التوسع “الداعشي” ... فالأردن بلد متجانس من الناحية المذهبية، وانقساماته الداخلية ليست من النوع المفيد لـ “داعش” أو أي من أخواتها، أما قواته المسلحة وأجهزته الأمنية، فهي كفيلة بمواجهة تهديدهم على الحدود وفي الداخل على حد سواء.
وأحسب أن المبالغات بتصوير الخطر المحيط في الأردن، تنبع أساسا إما عن جهل بفهم جدلية العلاقة بين هذه القوى وبيئاتها الاجتماعية والسكانية الحاضنة، وإما عن غرض، كما في الحالة الإسرائيلية، التي تريد إشاعة مناخات من القلق والخوف، في المنطقة لضرب أكثر من عصفور بحجر واحد: إدخال إسرائيل على خط التحالف مع ما يسمى “محور الاعتدال” العربي فضلاً عن الكيان الكردي الناشئ ... تبرير استمساك إسرائيل باحتلالها للأرض الفلسطينية ورفضها الجلاء عن غور الأردن والتلال المشرفة عليه ... وتسويغ اعتمادها على أمنها الذاتي بديلاً عن أية ترتيبات مقترحة بينها وبين الفلسطينيين، كما جاء في مشروع جون كيري... ذلك لا يعني البتّة، التقليل من شأن الأخطار أو نفي التحديات وإنكار التهديدات.
هنيئاً للبنان نجاحه باجتياز مرحلة “الشغور”، ونأمل أن يكون ساسته قد تعلموا الدرس جيداً، وأدركوا -وإن بعد حين-، أن مسألة الرئاسة كما الإمارة، ليست بهذه الصعوبة، ولا تحتاج لكل هذه التدخلات والمشاورات والتعقيدات.
الدستور