المجتمع المدني على ضفتي المتوسط

المجتمع المدني على ضفتي المتوسط

 

 

أتيح لي خلال الأيام القليلة الماضية المشاركة في سلسلة اجتماعات في بروكسل وبرلين تناقش التحديات، التي تواجهها المجتمعات العربية والأولويات الواجب العمل عليها، وشارك في الاجتماعات مجموعة من الخبراء والنشطاء من المجتمع المدني في بعض الدول العربية والأوروبية، وشارك في بعضها أيضاً ممثلين عن العديد من المؤسسات الدولية والإقليمية مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والاتحاد الأوروبي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنميةOECD .

 

لضيق مساحة هذا المقال، لن أتطرق الى تفاصيل النقاشات، التي دارت في هذه الاجتماعات، حيث سيتم تخصيص مقالات أخرى لهذه الغاية، وسأتناول  فقط الطريقة التي يتم فيها التعامل مع المجتمع المدني بين ضفتي المتوسط.

 

في الوقت الذي تفسح الساحات والمجالات لمنظمات المجتمع المدني في غالبية الدول الأوروبية للعمل، وتقدم لها التسهيلات وأشكال الدعم، كافةً، لتوسيع وتعميق أدوارها في تطوير السياسات الجديدة والبديلة والقيام بأعمال الرقابة على تنفيذ السياسات القائمة، استناداً إلى مبدأ استقلاليتها واختلاف رؤاها ومنظورها، فإن الساحات تضيق أمام منظمات المجتمع المدني في غالبية الدول العربية، ويتم التعامل معها باعتبارها أجسام هجينة ودخيلة على المجتمع والدولة، على اعتبار أن الحكومات وأجهزتها المختلفة، هي صاحبة الولاية فقط بالتفكير في قضايا المجتمع والدولة ومسارات تطورها.

 

وفي حال اضطرار بعض الحكومات للاعتراف بأدوار منظمات المجتمع المدني، فإن مساحة الحرية أمام هذه المنظمات تضيق، وتدفعها للعمل في إطار التوجهات الرسمية، ولا يسمح لها بالتفكير والعمل خارج منطق العقل الحكومي وإستراتيجياته، الأمر الذي يتعارض مع الفلسفة والمنطلقات التي أدت الى نشوء المجتمع المدني في مختلف المجتمعات والدول، وهي التي تقوم على استقلاله وتنوع الرؤى التي يحملها، ومصالح الجهات التي يمثلها.

 

لا نأتي بجديد عندما نلفت إلى أن المجتمع المدني مكون أساسي من مكونات العالم المعاصر، وهذا لا ينسحب على الدول فقط، لا بل ينسحب على المجتمع الدولي والمؤسسات الدولية بمختلف أنواعها، فمنظمات المجتمع المدني أصبحت لاعباً أساسياً في تطوير السياسات بمختلف مجالاتها، من تحديد معايير مسارات الطيران، وحتى تحديد معايير الإجراءات المحاسبية مروراً بمئات المهمات الأخرى التي تغطي معايير الممارسات الديمقراطية وحقوق الإنسان والحوكمة وغيرها.

 

واستنادا إلى هذه الرؤية، لا يمكن تخيل عالمنا المعاصر من دون هذه التشكيلة الواسعة والمتنوعة للمجتمع المدني العالمي والإقليمي والمحلي. ولم تعد تعقيدات الحياة والمجتمعات وتحولاتها تسمح باحتكار الحكومات وأجهزتها المختلفة والأحزاب السياسية اللعب لوحدها، مهما كانت فاعلة ومؤثرة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. والقدر والأهمية ذاتهما التي تقر وتعترف بها الحكومات العربية لأدوار المجتمع المدني العالمي في المجالات التقنية المختلفة، فإن عليها أن تقر وتعترف بأدوار المجتمع المدني في المجالات الحقوقية والسياسية وتعزيز الديمقراطية.

 

خلاصة الأمر، هنالك ضرورة ملحة لفتح الأبواب وتوسيع مساحات العمل والاعتراف بالمجتمع المدني وأدواره، وخلاف ذلك ستتعمق التفاوتات الاجتماعية وستختل التوازنات الاجتماعية أكثر، وسيتهدد الأمن والاستقرار الاجتماعي، وسينتشر العنف والارهاب، وعندما يحرم المجتمع من العمل في منظمات مدنية، سيجد الناس أنفسهم مضطرين للعمل في أطر تقليدية قبلية وطائفية.

 

أحمد محمد عوض: باحث ومدير مركز الفينيق للدراسات الاقتصادية والمعلوماتية.

أضف تعليقك