اللاحركات الاجتماعية في الأردن
يلاحظ المتابع لأحداث العنف المتزايدة في الأردن إصراراً غريباً على تصنيفها في سلّة واحدة بوصفها "عنفاً مجتمعياً" من دون تبيان مسبباته وتداعياته، وينطلق الإعلام الموجًّه ليذكّر الأردنيين بأخلاقهم في محاولة خرقاء لمعالجة قضايا ينشرها عادةً مبتورة المعلومات والخلفيات، في خلل فاضح يعلم كثيرون عواقبه الوخيمة.
ثم تدور بعدها أسطوانة التعامل الأمني، الذي غاب عن حوادث عديدة وقع بعضها منذ أيام، ولا يجري الالتفات إلى أهمية دراسة حالات العنف على يد باحثين في علم الاجتماع وعلم النفس وغيرها من حقول المعرفة وربطها بالمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية.
إحدى زوايا النظر إلى جذور العنف لدينا تحضر في دراسات حديثة حول مفهوم "اللاحركات الاجتماعية" في منطقتنا العربية وبعض بلدان العالم الثالث حيث تغيب فيها الحركات المنظّمة من نقابات وأحزاب ومؤسسات أهلية أو يقلّ تأثيرها.
يعرّف الاختصاصيون اللاحركات بأنها تعبير عن ممارسات مشتركة لأعداد كبيرة من الناس الذين تؤدي أنشطتهم المتشابهة والمختلفة إلى إحداث تغيير اجتماعي، رغم عدم توجيه هذه السلوكيات بأيديولوجيا أو قادة أو تنظيمات، وهي تنشأ بشكل فردي، لكنها تتحوّل إلى سلوك جمعي تتجه إلى استهلاك كل ما هو عام، وحضورها المادي يخلق صراعاً بين الفرد والدولة، وطبعاً بين الأفراد أنفسهم.
قاد مسار ما سمّي، في نهاية ثمانينات القرن الماضي، بـ"التصحيح الاقتصادي" في الأردن إلى إفقار فئات متعددة في المجتمع، ورافق ذلك تغوّل أجهزة النظام في الإمساك بإدارة الدولة والمجتمع، فاشتدت قبضتها رغم إلغاء الأحكام العرفية والدخول ظاهرياً بمرحلة "الانفراج الديمقراطي"، ما أدى إلى تهميش الأردنيين اقتصادياً وإضعاف تمثليهم الاجتماعي/ السياسي عبر خلق شخصيات نافذة لا حضور شعبياً لها، ويجري الاستغناء عنها وتبديلها دون عناء يذكر.
هذه العوامل مجتمعة أسست لتجمعات بشرية كبرى في الحواضر الرئيسية، إذ تشير إحصائيات إلى أن مدناً ثلاث؛ عمّان والزرقاء وإربد تحتضن مراكزها أكثر من ستة ملايين من أصل تسعة ملايين ونصف المليون ممن يسكنون الأردن، ناهيك عن تكتلات حديثة أصغر في المفرق والعقبة والسلط، ويشترك أغلب هؤلاء المواطنين الذين قدِموا من مخيماتهم وقراهم وبواديهم، واللاجئون السوريون وغيرهم، في انخفاض متصاعد لمداخيلهم الشهرية، وبأنهم غير فاعلين في مناطق سكناهم المستحدثة، وبالضرورة فإنهم فقدوا قدرتهم على التفاعل والتأثير في أماكن تولدهم ونشأتهم.
هؤلاء ممن يطلق عليهم "هامشيو الحضر" هم من يحتضنون آلاف العاطلين عن العمل غير المسجلّين في الإحصائيات، لانخراط كثير منهم في نشاطات اقتصادية غير مقننة وغير منظّمة في المحلات والورش الصغيرة والشوارع، إضافة إلى نسبة مماثلة من النساء غير العاملات.
يلفت دارسو اللاحركات الاجتماعية إلى أن حجم الاقتصاد غير المقنن لهذه الفئات يقدّر بالمليارات، ويمكن تتبعه في العاملين في مجال اصطفاف السيارات (الفاليه)، والباعة المتجولين، والمتسولين، وسوق الأقراص المدمجة المزورة، و"متابعي المعاملات" أمام الدوائر الرسمية، وقد يضاف إليهم المشتغلين في ترويج الدعارة والمخدرات وغيرها من الأنشطة المحظورة.
تتوّجه اللاحركات الاجتماعية بالفعل وليس بالأيديولوجيا، ويكون انتشارها هادئاً ما دامت لا تزال في طور تعبيرها عن مطالب فردية، لكنها حين تنحو للمطالبة بمصالح جماعية، فإنها لا تأبه بعقاب السلطة، كما يتضح في رصد مواجهاتها معها خلال العقدين الأخيرين، لكنها في الوقت نفسه لا تمارس ضغطاً منظّماً عليها، مما يضعف قدرتها على تغيير الواقع؛ سلباً او إيجاباً، في المنظور القريب.
مفارقتان تغيبان عن صنّاع القرار؛ الأولى تقارب هذه الفئات مع نظيراتها التي تعمل في القطاع العام أو في الاقتصاد المقنن مع تراجع الأوضاع المعيشية لمعظم الموظفين في الحكومة وفي القطاع الخاص أيضاً، والثانية أنّ هذه المنظومة المتضخمة من المهمشين تعدّ البيئة الخصبة لنمو الحركات الإسلامية المتطرفة ضمن مجالات الدعوة والصدقات وغيرها، وإن كان هذا الملف أكثر تعقيداً وتشابكاً في سياقاته.
ميدان البحث في اللاحركات الاجتماعية يبدو فقيراً، لكن عوامل ثلاثة تبرز عند رصدها: ارتفاع أعداد المنتمين إليها، وبالتالي تنامي الاقتصاد الهامشي (والخفي أحياناً) الذي ينظّم عمل الألوف منهم، وتكرار حالات العنف لدى أفرادها على نحو صادم في شكلها ومضمونها، وقد جرى الإشارة إلى بعض الحوادث الأخيرة خلال اليومين الماضيين في ارتباطها بخلافات على أشغال المتورطين فيها.
يتجاهل عقل السلطة القاصر مستقبل هذه اللاحركات، مطمئنا إلى اختراقاته الأمنية لـ"مجتمعات القاع" وأنشطته، وغير مدرك إمكانية تطوير ثقافة الهامش أشكالاً عنفية تتجاوز فكرة الصراع من أجل البقاء، وحينها لا يمكن التنبؤ بما هو آت.
محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.