الكاتب والكِتاب في مجتمع طارد
في حديث متصل جرى مع أحد أصدقائي من الناشرين الأردنيين، صاحب تجربة طويلة تعود إلى النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، بدأت في بيروت وما زال يواصلها حتى اليوم (هو الأستاذ ماهر الكيالي مدير المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، قلتُ بأنني أميل إلى اعتبار العاملين في قطاع نشر الكتاب العربي اليوم سيكونون ـ وبحسب تعبيري ـ "الجيل الأخير" قبل الأفول الحتمي لهذه "الصناعة الثقافية"، ما دامت الشروط العامة التي تتحرك فيها لا تنبئ بأيّ تغيّر. في البداية، لم يتقبّل مني هذا الاستنتاج معتبراً إيّاه استنتاجاً متشائماً. لكنني، اعتماداً على إحاطتنا معاً بأحوال الكتاب المطبوع/ المنشور وحركته بين الأسواق العربية، ذكّرته بحقيقة قديمة جديدة باتت قيد التداول منذ أكثر من ثلاثة عقود، مفادها:
كان الحدّ الأدني المطبوع لأيّ كتاب هو ثلاثة آلاف نسخة. أما اليوم، وبعد تلك العقود الثلاثة (لا قبلها) بتنا نكتفي بطباعة ألف نسخة! وهذه إشارة لا تقبل الجَدَل بصفتها واحدة من نقاط الاشتراك والاتفاق بين جميع الناشرين العرب (باستثناءات نادرة تؤكد القاعدة ولا تنفيها)، لكنها في الوقت نفسه تفتح المجال واسعاً لقراءات متعددة لها، تحفرُ في أسبابها إذا ما أردنا، فعلاً، إيقاف حالة "التدهوّر" التي نواجهها.
وافقني، وأضاف من جانبه بأنّ العاملين في مكتبه في بيروت يُلّحون عليه بإنقاص النسخ الألف إلى خمسمائة! والسبب: تراجع الطلب على نحو متصاعد، وعجز المستودعات عن الاستيعاب!
كنتُ أشرتُ أكثر من مرّة إلى أن عملية النشر تشكّل مفصلاً أساسياً في "صناعة ثقافية" ذات أبعاد حضارية، واجتماعية، وإنسانية، واقتصادية، ومعرفية، وتربوية، وتنموية أيضاً. ولأنها كذلك، فإنها لدى شعوب أدركَت هذه الأبعاد، تندرج ضمن ما يمكن تسميتها بـ"الصناعات الثقيلة" فعلاً. لكنها، وعند معاينتنا غير المجاملة وغير الناقصة لها داخل مجتمعاتنا العربية، فإنها تكاد لا تشكّل حتّى "صناعة خفيفة"! ـ ودَعْ عنكَ كل ما قيلَ ويُقال على ألسنة جميع المسؤولين السابقين والحاليين، وكذلك على ألسنة الوارثين لهم عضوية ناديهم المُبَجَّل في قادم الحقب. فالمسألة تكمن في نقص الإحاطة الفادح لديهم جميعاً بكّل ما سَلَف من جهة (وليس نقص الموازنات والمخصصات أبداً.) إضافة إلى "الوصفة الذهبيّة" في كيفيّة تشكيل الحكومات عندنا، و"القاعدة الصلبة" المأخوذ بها عند اختيار الوزراء والمسؤولين، ما يشير للمرّة المليون إلى "المكانة" الحقيقية للثقافة في أذهان الرؤساء لحظة الوقوع على مَن تَبَقّى من أسماء مرَشَحَة ليكون وزيراً لها ـ أعني: هي آخر الوزارات المنظور في أمر وزيرها! ليس لأنها "سياديّة عُليا" تقتضي التأجيل والتريّث، بالطبع؛ وإنما لجملة الأسباب السالفة الذكر.
هل أجافي حقيقة الواقع المعيش إذا ما تجرأتُ فقلتُ بأنّ خَللاً جوهرياً ضربَ المجتمع في معاييره، بسواد فئاته، بحيث باتَ الكتاب وكاتبه وناشره، وحتّى القارئ له، قيد "الإقامة الجبريّة في حدود هامش الهوامش"؟ فالمجتمع الذي أخذ الفرد فيه، ومنذ أكثر من أربعة عقود، ينظر للمعلّم ولكتاب المدرسة باستخفافٍ يخالطه النفور والكره في كثير من الحالات، لا بل الاستهجان كذلك، لهو مجتمعٌ طاردٌ بالضرورة لكافة عناصر العمليّة التعليمية والتثقيفية، وبالتالي هو مجتمع يتصفّ بالخِفّة لكنه "يتعالى ويتطاوس ويتعالم" بينما قواعده المعرفية آخذة بالتفكك! وإذا كان هذا دقيقاً، بنسبة أو بأخرى، فهل ننتظر من مسؤولينا، باعتبارهم من "النُخَب المختارة" بحسب تلك المعايير، أن يدركوا فداحة الهاوية التي نقف على حوافها!
إذا كان ثمّة إدانة مباشرة، فهي إدانة النُظُم التربويّة والتعليميّة التي أدّت إلى نشوء أربعة أجيال غُرِّبَت عن الكتاب، وأُبْعِدَت عنه باعتباره مفردةً حيويّة وثابتةً في يومياته. نُظُم، وأنظمة سياسيّة وجهات تخطيط "وطنيّة" أيضاً، تتحمل المسؤولية الكاملة عن "عمليّة تجهيل" ممنهجة ليست بريئة، بالتالي، على الإطلاق!
مَن "في فمه ماء"، فليجرعه أو يدلقه، لأنّ الإبقاء عليه هي مشاركة منه في التغطية على نَحْـر وطن!