الـفيفا و«يد الله»

الـفيفا و«يد الله»
الرابط المختصر

 

 

 

يحق لأسطورة كرة القدم مارادونا أن يبتهج بـصدمة الـ«فيفا» أكثر من غيره؛ إذ خاض وحده بمبادرة شخصية منه، حرباً مفتوحة امتدت أكثر من عقد ضد هذه المؤسسة الفاسدة، التي تحولت إلى إمبراطورية إمبريالية هائلة، عابرة للحدود، تغزو العالم عبر الشاشات، وتحتفظ بمستعمرات فساد في كل بلد «تغزوه». ولعل من سخرية القدر أن اللاعب البرازيلي السابق بيليه، الذي كان يأخذ على عاتقه الرد على مارادونا بالإنابة عن بلاتر وزمرة الـ«فيفا» يصمت اليوم، ويضطر في الأثناء لإجراء عملية للبروستاتا!

 

كانت معركة مارادونا ضد الـ«فيفا»، التي كلفته الكثير، مبررة على الدوام، حيث أن كرة القدم هي «سلالته الملكية»، ونسبه العائلي، وهي كل أرثه. ولم تكن له مصلحة شخصية خاصة، في الانتفاض ضد الأخطبوط الكروي الذي كانت حتى الدول تتجنب التعرض له. وكانت معركته جريئة وشجاعة، لأن ليس لديه ما يخفيه، ولا ما يطعن بشفافية اعتراضاته. وهو اليوم، مع التحقيقات وأوامر الاعتقال، التي طالت زمرة الـ«فيفا»، يكسب بـ«ضربة جزاء» حاسمة، ربما كان لـ«يد الله» دوراً في سدادها.

 

ولهذا كله، من المفهوم أن يشعر أسطورة كرة القدم بخيبة أمل إزاء النهاية التي آلت إليها منافسة مرشحه، الأمير علي، الذي كان منافس بلاتر الأهم، وبدا أنه رابح لا محالة بفضل صدمة الـ«فيفا». ووصل إلى هذه المرحلة محمولاً على عنوان كبير اختارته مفاتيح انتخابية هامة لدعم ترشيحه، ومن بينها مارادونا نفسه، ويركز على التغيير وإنهاء عهد الفساد في الـ«فيفا» وتحكيم الشفافية.

 

وهنا، لن يكون مارادونا محقاً إن اعتبر نفسه «مهزوماً» في معركته الطويلة الضارية لمجرد أن بلاتر فاز بإعادة انتخابه؛ إذ عليه وعلينا جميعاً أن نلاحظ أن صدمة الـ«فيفا» غيرت وجه المنصب نفسه، إذ لم يعد محصناً، ولا محاطاً بأسوار من الحماية، وهو ما قد يفسر استقالة بلاتر عقب أيام خمسة من فوزه، ومن يتولاه سيكون تحت الأنظار، وفي مرمى الاتهام، ولن يتطلب الأمر سوى شبهة صغيرة حتى يجد صاحبه نفسه تحت طائلة المساءلة، ورهن التحقيق، ناهيك عن الحروب الإعلامية التي لن تبقي ولن تذر.

 

وخلافاً للوضع إبان عهود بلاتر السابقة، فإن الـ«فيفا» اليوم أمام وضع جديد؛ إذ كما أن هناك اتحادات إقليمية تنطق باسم عدد لا يستهان به من الدول، وتعبر عن العديد من الاحتكارات والمصالح الكبيرة، أغاظتها صدمة الـ«فيفا»، وأضرت بمصالحها، وتشعر بأن ما جرى هو استهداف لها قبل أن يكون استهدافاً للزمرة الفاسدة في الاتحاد الدولي لكرة القدم، هناك أيضاً اتحادات ودول أخرى أغاظها إعادة انتخاب بلاتر رغم «الفضيحة الطازجة».

 

وبهذا المعنى، فإن الوضع في الـ«فيفا» تغير، وانتقل من التقاسم بالتراضي بين الرؤوس الكبيرة، إلى معارك كسر العظم والحروب الطاحنة. وهنا، لن تعود «الشفافية» سلاحاً بيد طرف بعينه، بل ستتحول إلى كومة من الحجارة يتراشق بها طرفان أو أكثر.

 

من الواضح أن صدمة الـ«فيفا» كشفت حجم الفساد غير المسبوق في الاتحاد الدولي لكرة القدم، وأوضحت طبيعته التي تفوق الأشخاص وتتعداهم إلى هيمنة مطلقة للاحتكارات و«البزنس»، الذي انتشر حتى في الاتحادات الإقليمية، وأحاط بها من كل جانب. وهذا يدعونا للقول أنه في وضع فضائحي كهذا، على المرء أن يفكر كثيراً قبل أن يقحم نفسه وبلاده فيه، حتى وإن لاحت فرصة أخرى!

 

والأمر بالنسبة لنا، في الأردن، لا يحتاج إلى كثير تفكير؛ فنحن، ابتداءً، لسنا دولة شفافية، لا بالمعايير الاقتصادية، ولا بالسياسية، ونحتفظ بنظام لا تتطابق طبيعته مع معايير الشفافية، بل تتناقض معها تماماً، ناهيك عن أننا بلد يعيش دوامة فساد، تمنعنا من تحقيق أي سيرة نجاح يعتد بها في مجال الإصلاح. فـ«ما لنا ومال» إصلاح الـ«فيفا». إنه شأن كبير و«عويص».

 

وأكثر من ذلك، يبدو لي أن في ترشيح الأمير الأردني للمنصب الدولي «لحظات غير مريحة»، وقد تكون «حرجة»:

 

أولها، أن الأمير، لو تولى المنصب الدولي، لوضَع نفسه تحت مساءلة هيئات أجنبية ودولية. وبالتغاضي عن احتمالية أن يؤدي ذلك إلى المساس بصفته الاعتبارية كعضو في العائلة المالكة وهو ما يعني المساس بالبلاد، فإنه ليس من الشفافية القبول بوضع تمتلك فيه هيئات أجنبية ودولية صلاحيات رقابية وسلطة مساءلة على الأمير الأردني، لا تملكها الهيئات الوطنية المثيلة.

 

ثانيها، أن الأمير، بتوليه المنصب الدولي، يضع نفسه عرضة لمساءلة أشخاص غير أردنيين «أدنى» منه بروتوكولياً؛ ولا يجوز أن يتمتع مواطنو دول أخرى بحقوق تجاه الأمير الأردني، لا يمتلك مثلها مواطنوه أنفسهم.

 

ولا ننسى أن الأزمة التي عصفت بالـ«فيفا» نشأت بالأساس من السماح بنشوء المزيج الخطر المكون من «البزنس» والنفوذ السياسي والعمل العام. ونعرف أن هذا المزيج انتقل من الـ«فيفا» إلى بقية الاتحادات الإقليمية؛ وقد سبق أن انفجرت في الميدان الأردني قضايا ذات طبيعة مشابهة، وحملت مؤشرات على وجود هذا المزيج الخطر في ساحتنا الرياضية.

 

ليس الحل الوحيد، بالطبع، في عزوف الأمير عن إعادة الكرّة والمحاولة. بل في تعميم «الواقعية»، التي سمحت لأمير أردني تعريض نفسه لشروط التنافس مع مواطني دول أخرى على منصب عام، وأتاحت له أن يقبل بوضع نفسه تحت المساءلة من هيئات أجنبية ومواطنين غير أردنيين «أدنى» منه بروتوكولياً.

 

والمقصود سحب هذه «الواقعية» على الحالة الأردنية من خلال الحد من حجم وتوسع الحصانات في محيط الحكم، أو على الأقل تُخيِّر الراغبين من أهله بين صفاتهم الاعتبارية وما يلحق بها من حصانة محلية من جهة، وبين المناصب الدولية غير الخاضعة للسلطة الأردنية من جهة أخرى، بحيث لا ينشأ هناك وضع يمس هيبة البلاد أو ينتقص من كرامة مواطنيها.

 

وحينها، ربما نحظى جميعاً، مع مارادونا، بمعونة «يد الله»!

 

  • ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.
أضف تعليقك