العلمانية التي نريد
تحلّ هذا الأسبوع الذكرى الثانية والأربعين لوفاة طه حسين، الذي عاش مرحلتين سياسيتين؛ الأولى يحلم فيها بعلمانية ليبرالية اضطر من أجلها أن يهادن المجتمع أكثر من مرة، ويظهر حرصه "المبالغ" على الإسلام الذي أساء له رجال دين، والثانية يحتفظ خلالها ببقايا حلم وكثير من صمت.
لن أناقش منجز كاتبنا الفذ، في هذا المقال، فربما أثرّت مواقفه المسبقة ضد انحطاط الثقافة العربية على منهجه العلمي، في بعض مؤلفاته، فقدم أفكاراً عظيمة لكنها لم تصمد في حقل الدرس، وحاول أحياناً مدفوعاً بقيم التنوير، التي آمن بها، أن يفك أسرنا من ماضِ، لا زلنا نقرأه حسب هوانا، فوقع بأخطاء تنم عن عدم معرفة بوقائع التراث الإسلامي أو تسرّعٍ في بناء خلاصاته.
أراد طه حسين "الأعمى" أن يبصر، وهي محاولة تتجاوز استعادة النظر بمعناها الحرفي، وإن تضمنت رغبة بحصول معجزات لا تقف عند حدود الانتقال من عصر إلى آخر، فاستنزف في سبيل ذلك كل جهده وبحثه في حقول متعددة؛ الأدب والنقد والسياسة والتاريخ والتربية والتعليم والفلسفة وغيرها، لذلك سيظل القليل المهم من آثاره، وسيخلد صاحبها أنموذجاً لجدل وسجال نفتقده منذ أن سطت أنظمتنا العربية على دولها منذ أزيد عن خمسين عاماً، إلى أن أصبحنا مجتمعات بلا فاعلية.
"فاعلية" تتأسس على مجانية التعليم واستقلالية الجامعات والمدارس، كما رآها مؤلف "في الشعر الجاهلي"، وقد استقال من منصبه إيماناً بهذه الأسس، وعاد منافحاً عنها أكثر، ربما لأن الضغوط التي كانت تدفع إلى إقالته -تنجح نسبياً وبشكل مؤقت- تواجهها ضغوط مقابلة تستميت دفاعاً عنه.
يمكننا القول اليوم –آسفين- إن هذا الصراع قد انتهى في مجتمعنا بين القوى المحافظة وبين القوى المستنيرة بعد أن ألحقت كلتاهما بالسلطة، وأصبحتا مجرد ناطقين إعلاميين باسمها ووعاظّ بعمائم أو من دونها!
في تلك الأيام، كان الخلاف حول كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" اختلافاً من موقع الثقافة وإمكانية تمثيل المجتمع بقوى حيّة لا تخطفها أيديولوجيا أو عقيدة بدعوى الحفاظ على الأمة ودينها وعروبتها، واندلعت اشتباكات عنيفة بالقلم والكلمة حول أطروحة الرجل الذي رآى مصر غربية لا شرقية.
تساجل "الهاربون" تجاه الشرق أو الغرب، حينها، ووجدوا زوايا عديدة لانتقاد طه حسين، لكنهم لم يشخصنوا حروبهم معه، واعترضوا على مقولته السياسية التي شكّلت قمة أمانيه في النجاة من شرق مثقلٍ بـ"كتب مقدسة وجرح في الهوية"، لكنهم قدروا موقفه المتمسك بلغته وثقافته العربية عنواناً وحاملاً لمصريته "العقلانية"، كما طمح بها.
ليبرالية طه حسين وعلمانيته ليستا يافطة حزبية أو شعاراً عابراً يرفعها البعض بحديث مكرور عن حرية الرأي والتعبير، بينما تفتقد تلك الحرية المزعومة أهم ما يحفظ الإنسان وكرامته ومستقبله وهو استقلالية العقل وكل ما ينتجه.
المثقف المستقل لا يخضع لوصاية، فالمؤسسة التي يبنيها ويطورها ويعارضها هي أفكار تراكمت ونمت على شكلها الحالي، وأفكاره وأفكار الآخرين تعيد بناءها وتطويرها وهدمها إن لزم الأمر، وربما هنا يحضر الاحتجاج الأبرز على طه حسين، الذي اعتقد لحظةً أنه ضمِن مساحة له في إعادة قراءة الإسلام.
ما العلمانية الذي نريد؟ سؤال قد يكون عميد الأدب العربي أساء تقدير جوابه، وتتجاهله أنظمة تقتات على "إسلام" التسلط والغيب، ويحاربه رجال دين في الحكْم أو يطمعون به، ويخونه "علمانيون" يرتضون الانحياز إلى سلطة برؤوس متعددة تمارس كل أشكال وصايتها على العقل.
محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.