السيدة الهاربة إلى الحرب
أثارت انتباه موظفي المول وزبائنه منذ لحظة دخولها، كأنها تنتمي إلى زمن بعيد لم نعد نتذكره إلاّ عبر صور الأبيض والأسود؛ امرأة في أوائل الثمانينات بكامل أناقتها وهيبتها، وشعر بني خفيف مصفف باعتناء بالغ، وتنورة وسترة باللون الكتاني نفسه، واكسسوارات بسيطة تزين رقبتها وأذنيها وأصابعها، ومِشْية تشي بامتزاج حكمة السنين ونزق طفولي يعود للمرء في آخر العمر.
كانت تسير بثبات، وهي تقود عربة التسوق، وتتفحص البضائع المعروضة بعين خبيرة تبحث عن أهداف منتقاة بدقةٍ، غير مكترثة بنظرات الفضول التي تلاحقها، في صبيحة يوم عمّاني شتائي بشمسٍ خجولة، فربما أخرجها بعض الدفء من بيتها لتبتاع حوائج تلزمها لاستقبال موجة البرد المنتظرة، أو أنها جاءت تقلّب زاوية المجلات والكتب لكي تظفر بإصدار جديد يؤنس وحدتها، أو أنها على موعد مع صديق ليتأملا سوية معنى الحب، أو ما يجول في خاطرها عن فكرة الخلود.
فجأة، علا صوتها في أرجاء المكان، إذ قاطعها شاب يرتدي زياً أفغانياً ويطلق لحية طويلة، طالباً منها تبرعاً لإنشاء مسجد في أحد الأحياء الشعبية المعروفة، وهو ما قاد السيدة الثمانينية إلى الصياح دافعة بوجهه تساؤلات عديدة، وجاذبة في الوقت نفسه الأنظار صوب عباراتها الغاضبة بلهجة عراقية مميزة.
وقفت تاركةً كل ما يشغلها، وابتدأت تستفسر عن سبب مغادرته لمكان عمله –إن كان يشغل وظيفة- وإهداره لوقته وتفريطه بالواجب، ثم تساءلت مستنكرة عن دواعي تشييد المسجد في حي يفتقد أهله إلى تعليم أفضل وخدمات صحية مجانية ومكتبة عامة، مع تأكيدها افتقاد هذه الأساسيات رغم عدم معرفتها بكامل مناطق عمّان.
عبثاً حاول الشاب العشريني أن يشرح لها أهمية إعمار بيوت الله، فعاجلته السيدة باستنكار بناء هذه البيوت التي لا تجد وزارة الأوقاف أئمةً مؤهلين لاعتلاء منابرها، ناهيك عن تطرف كثير منهم، وأنها عرفت عبر وسائل الإعلام أن ميزانية الوزارة لا تكفي للإنفاق على أكثر من 6500 مسجد في المملكة، يضاف إليها 150 مسجد آخر كل عامٍ، بدليل انقطاع التيار الكهربائي عن عدد منها لعدم تسديد الفواتير المتراكمة.
واصلت دفْع حججها واحدة تلو الأخرى، مطالبةً بتوجيه عشرات الملايين، التي يتم جمعها بذريعة بناء المساجد، لدعم قطاعات التعليم والصحة والثقافة، لكنها لم تنتبه إلى أن زبائن المول وموظفيه كانوا يقابلونها بنظرات الاستغراب والاستهجان، و قد بدا على الجميع ملامح التعاطف مع جامع التبرعات، تفضحها إشارات أيديهم وتعابير وجوههم التي يتهمون بها السيدة بالخرف أو بلوثة مسّت عقلها!
همسات وهمزات تداولها المحيطون بها، ما جعلها تتوقف عن استكمال خطابها العقلاني المتماسك، رغم عفويتها وبساطة لغتها. استدارت نحوهم وهي تمسك بقوة على مقبض عربة التسوق، لتتنقل بحديثها إلى معاناتها الشخصية، موضحةً لهم أنه منذ انتشار الدعاة بالآلاف في عراق التسعينيات، يغلب عليهم الجهل والتشدد، وتشييد مئات المساجد لالتقائهم في زمن انهارت به كافة روابطه المدنية، بدأ تراجع المجتمع وانشغاله بالخرافة، وقاد ذلك إلى مزيد من الحروب والمجازر والهجرات القسرية، وجروح لا تزال تنزف في قلب ثلاثين مليون عراقي وأكثر.
خطفني أثر الفجيعة في كلماتها، التي فرقّت الجموع من حولها، كما حشدتهم منذ لحظات، كانت تشبه بأدائها ممثلة تختتم المشهد الأخير في المسرحية بقولها: إنها الحرب، لكنكم لم تستشعروا انطلاقها بعد!
محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.