"السفارة" والمثليون

"السفارة" والمثليون
الرابط المختصر

 

 

 

 

"غضب شعبي" بسبب مشاركة السفيرة الأمريكية، في عمّان، في اجتماع لمناقشة حقوق المثليين والمتحولين جنسياً منذ أسبوعين؛ ولا احتجاج يُذكر على تلبية السفيرة نفسها دعوات مسؤولين حاليين وسابقين من شمال الأردن إلى جنوبه أقاموا لها الولائم، وعلى "تدخلها" الدائم عبر خوضها في الشؤون الأردنية وتفاصيلها كافةً!

 

السفارة الأمريكية في بلادنا ليست بعثة دبلوماسية لتمثيل مصالح الولايات المتحدة والدفاع عنها، كما يفترض العرْف السياسي، إنما هي جهة فاعلة في السياسة الأردنية ،ويتنافس رجال في الحكْم على التقرب منها، ويمكن لأصحاب الذاكرة القصيرة الرجوع إلى تسريبات "ويكليكس" في عام 2010، التي أثارت يومها فضيحة، في إعلامنا سرعان ما تسامحنا معها.

 

كشفت المعلومات، التي سّربت حينها، أن الأمريكيين على دراية بجميع الخلافات والاختلافات في الدولة الأردنية، ويعرفون بدقة تقييم المسؤولين لبعضهم بعضاً، وآرائهم العلنية والسرية تجاه الأحداث الداخلية والخارجية، لكن أكثر ما يسترعي الانتباه هو رغبة هؤلاء بالجلوس طواعية وتقديم كل ما يمتلكونه لنيل رضا "السفارة".

 

على مرّ السنين، لم يعترض أحد على الحج المنتظم إلى "السفارة"، وحتى حين بادر المسؤولون إلى دعوة السفيرة أليس ويلز، وسابقها ستيوارت جونز، إلى منازلهم، كنا نتابع صورهم من خلال المواقع الإلكترونية، مع تعليقات فكهة حول قيام شخصية معروفة بـ"تشريب" اللبن أمام السفيرة، أو تقديم طبق آخر إلى جانب المنسف، ومهارات السفير السابق في تناول الطعام بيده.

 

فجأة، هبّ الكلّ غاضباً؛ مسؤولون ومعارضون إسلاميون وعلمانيون ورجال دين وناشطون داعين لـ"اتخاذ المقتضى القانوني بحق السفيرة الأمريكية لتجاوزها حدود عملها والقيام بدعم وترويج عمل يعتبر جريمة وفقاً للقانون ومخالفة للدستور الأردني"، ومطالبين بتجريم "الشواذ الذين لا يمثلون المجتمع الأردني".

 

هل يستطيع هؤلاء الغاضبون، أو غالبيتهم العظمى، إبداء "الغضب" تجاه التدخل الأمريكي الأزلي في شؤوننا، وهل يمتلكون شجاعة الاعتراض على تجاوز السفيرة لجميع الأعراف الدبلوماسية، ودخولها وتدخلها بكل تفصيل أردني؟

 

ربما تحضر ببال آخرين أسئلة أكثر حرجاً، لكني سأنتقل إلى التعليق على فعل الاحتجاج ذاته، الذي يبدو "مصطنعاً ومفتعلاً"، إذ يبنغي التذكير بـ"التواطؤ" بين السلطة وبعض التيارات الاجتماعية، فالقول إن جمعية "عون"، التي تطالب بحماية المثليين، غير مرخصة قانونياً ينطبق على عشرات الجمعيات غير المرخصة، التي ترعى جماعات دينية وغيرها على الأراضي الأردنية، ناهيك عن أن القانون الأردني لا يحتوي نصاً واحداً يجرّم المثلية بين البالغين، ولا يحظر عقد اجتماع غير عام لمناقشة هذه القضية وغيرها.

 

وتقديم الشكوى ضد السفارة الأمريكية ووزارة الشؤون الاجتماعية والجمعية المذكورة هو في الأغلب محاولة لتنفيس الرأي العام، ولو كانت الجهات المسؤولة معترضة، حقاً، لما عقد اجتماع المثليين من أساسه، وتستمر اللعبة برفض النائب العام الدعوى المرفوعة بحجة "حصانة" الشخصيات المشتكى عليها، وقد تبقى المسألة في أخذ ورَدْ طالما أنّه ليس هناك من ضغط حقيقي لـ"الاعتراف" بالمثليين وحقوقهم، وليس هناك من ضغط حقيقي مقابل منع ذلك الاجتماع أو ما شابهه.

 

دعونا نناقش الشق الثاني من القضية المتعلق بالمثليين أنفسهم -وهو الأهم لو كان هناك فاعلية اجتماعية لمناقشة القضايا العامة من دون جهل معرفي أو مزاودات واهية باسم الأخلاق-، فعند العودة إلى العلْم نجد أن تصنيفهم لم يبق في إطار المرض أو الشذوذ، فما يعيه العارفون أن "المثلية" هي إحدى التنوعات الطبيعية في الجنسانية الإنسانية وتعكس تفاعلاً معقداً لعوامل بيولوجية وبيئية، وبذلك لم تعد مسألة محاكمتهم مجدية بعد قرون من العداء تجاههم في أوروبا، خلافاً للتاريخ الإسلامي الذي شهد قدراً أكبر من التساهل معهم، وكان "الغلمان" حاضرين في القصور والحياة العامة والشعر، ويباعون في الأسواق، وتنتقل ملكيتهم من سيدٍ إلى آخر.

 

ينكص أغلبية المشتغلين في الشأن العام عن مواجهة هذه الحقائق، وهم يفضلون تجاهلها أو مجاراة ردة الفعل الشعبوية، ولا يقدمون أية مقترحات عملية وواقعية عند طرح قضايا اجتماعية تبدو شائكة مثل زواج مسلمة من مسيحي أو العكس، أو تغيير مواطن لدينه...

 

سأتوقف عند مسألة واحدة تتعلق بالمتحولين الجنسيين الذين لا يعترف بهم رسمياً، وهم محرومون من إمكانية تغيير اسمهم، وهويتهم وباقي الوثائق، فهل درست الحكومة أو جموع المعترضين هذه الفئة التي تحولت من جنس إلى آخر (ذكر إلى أنثى وبالعكس)، فهؤلاء لا يمكنهم العودة إلى الوراء واستعادة هويتهم الجنسية السابقة، وكذلك للأسف لا يستطيعون المضي للأمام من دون اعتراف بهويتهم الجديدة.

 

ثمة عبارة تتكرر كلما أثيرت قضية عامة، مثلما حدث مع المثليين، بوصف فئة معينة بأنها "لا تمّثل الشعب"، من دون أن يتساءل أحدهم عن تلك الفئة أو الشريحة أو الجماعة التي يمكنها أن تمثل الشعب. ألاّ يستحق الموقف قليلاً من الشجاعة والاعتراف بأنه لا يوجد تمثيل حقيقي أو رمزي لمجتمعاتنا الغارقة في التخلف والانقسام والكراهية والتمييز.

 

ختاماً؛ لن تتوقف "السفارة" عن تدخلها المزمن في شؤوننا، ونحن فقط من عليه الاختيار بين أن ننقسم إلى فئات لا تجد إلاّ رعاية أمريكية أو خارجية لحقوقها، وبين الإقرار بأن كل فئة هي جزء من مجتمع واحد عليه أن ينهض ويرعى شؤونه بنفسه.

 

  • محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.
أضف تعليقك