بين الأسود والأبيض تنفرش جميع الألوان بكافة تدرجاتها، من الغامق الشديد إلى الشفّاف الذي يكاد يبين. بين الرفض المطلق والقبول غير المشروط، تتمايز المواقف بالعشرات وكلّ واحد منها يمتلك رؤيته الخاصة وتحليله المختلف. بين "لا" الخرقاء و"نعم" البلهاء، تمتد مجموعة كبيرة من الأحكام المتسلحة بتحليلاتها، وتبريراتها، وتحفظاتها. بين جنس الملائكة الأثيري البهي وطبيعة الشياطين الناريّة المظلمة، يقف الإنسانُ متفرداً في كونه الكائن المتصف بالنسبية في كُليته، خِلافاً لسِمة المطلق في الملاك والشيطان: النسبية في تحقيقه لذاته عبر أفعاله. النسبية في سلامة ما يصدر عنه من قرارات. النسبية في قدرته على التقاط اللحظة في زمن سَيّال لا يتوقف، ومعاينته الصائبة لمحمولها من "حقائق" تتصف (هي نفسها) بالنسبية أيضاً.
تشكّل خاصية النسبية، إذا ما أجرينا تأملاً عميقاً في أبعادها، الجوهر الإنساني في شموله كافة الحضارات.حضارات سادت فترة طالت أو قصرت، لكنها في النهاية بادت. بادت لتؤكد على انتفاء التأبُد الإنساني – إنْ فحصناه على صعيد أفعال البناء، أو على صعيد الإنسان/ الفرد الباني. كل شيء إلى زوال، ولكن بمعنى أنّ كل شيء ليس بمنجى من تعرضه للتغيُّر والتحوّل. وهكذا، تعود النسبية لتفصح عن نفسها عنصراً أزلياً يسري في الحياة التي عِشنا.. ونعيش.. وسنعيش.
بناءً على ما سبق، أجيز لنفسي مساءلة الذين يتخذون مواقف تتسم بالإطلاق الرافض لأيّ مراجعة تمسّ الأرضية التي بُنيَت مواقفهم عليها. مواقف ولِدَت جرّاء اجتهادات سابقة ربما كانت "صائبة"، بمعنىً ما، ذات يوم لكنها، أسوةً بمعطيات الحياة الخاضعة لـ"قانون" الحياة القائل بالنسبية، وبالتالي القاضي بالتغيّر والتحوّل، لا يمكنها الهروب من حتمية إعادة النظر.
الإطلاق أشبه بالصناديق المقفلة بمفاتيح ضاعت، ما يغري الواحد منا لأن يساوي المفردة اللغوية بـ"الإغلاق". وهذا بدوره يجعل من مصير تلك الصناديق أحَد احتمالين: أن تصدأ وتتآكل بمرور الزمن، ثم تُهْمَل وتغطّيها أتربة النسيان. أو أن تُفْتَح عنوةً بتحطيم أقفالها وشَلْع أضلاعها، فتتضح عندها صلاحية محتوياتها عند الاختبار.
كثيرة هي هذه الصناديق، وكثير هُم أصحاب تلك الصناديق، ومن فرط تلاصق الصناديق اللاحم الحميم بأصحابها، وبالعكس؛ أصبح من الصعب التفريق بينهما: باتت الصناديقُ رجالاً تنوبُ عن الرجال، وأصبح الرجالُ صناديق تتلو آيات الصناديق وأسفارها.. بالنيابة!
كأننا أمام رِسْم كاريكاتيريّ بمقدورنا تخيله على الشكل التالي: قامة رجل بكامل قيافته واعتداده بـ"نفسه"! برأسٍ مكعب أو مستطيل!
ولا داعٍ للسخرية من هؤلاء، بقدر ما ينفتح المجال واسعاً لأمور أخرى أوّلها الإشفاق، وثانيها الرثاء، وثالثها استنكار وقاحة الشتم والبذاءة، ورابعها إدانة ما يجري من أنهار دماء بريئة لمجاميع هائلة من البَشَر "غير المصندقين" لا ذنب لهم سوى أنهم خارج الصندوق! فأنْ تكون صندوقاً يعني أنكَ أحكمتَ احتكارك للحقيقة، وبالتالي للحق، ما يجيز لك (بضميرٍ صافٍ مُصفّى يكاد من رهافته القصوى أن يتلاشى) ممارسة موهبة الإقصاء على أكثر من صعيد: التكفير، التخوين، الإعدام، التشهير، القتل المعنوي، التصفية الجسدية، إلخ.
أما إذا كانت مسألة الخلاف بين رجال الصناديق البيضاء من جهة، ورجال الصناديق السوداء من جهة أخرى؛ فالويل كل الويل لجميع مَن هُم لا هنا ولا هناك.
إنّ رجال الصندوقين على ثِقة رَبّانية أزلية أبدية بأنّهم هُم الملائكة. وبالتالي فإنّ الشياطين هي نحن.. لا محالة!
* * *
أتراني أتحدّث في السياسة مواربةً، أم عن الأخلاق تلميحاً، أم أتفلسف وأتفقه وأتمادى قائلاً:
إنّ نموذج الصندوق لا يعدو أن يكون "صورة طبق الأصل" للمنطق العَدَمي الماثل في مقولة "إما.. أو"!
وفي كلّ مرّة أقرأ أو أسمع كلمة "اصطفاف"، أجدني أتساءل إذا ما كانت العَدَميّة أشد إعتاماً في هذا الصف، أم أكثف رسوخاً في الآخر.
ثم أصحو على واقع أنّ العَدَم ينفي كل ما عداه. ينفي حتى أصحابه.. فهم الأَولى به.
- إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.