الحج إلى المستقبل
ستعلّق الأجيال المقبلة أسئلتها حول جملة أحداث نعيشها، هذه الآونة، وقد يكون أحدها عن ضحايا التدافع أو سقوط الرافعة، في موسم الحج الحالي، ولا نعلم حينها كيف سينظرون إلى خرافات أطلقها رجال دين منفصمون عن واقعهم، وإلى سيل الاتهامات المتبادلة على أسس طائفية، وكذلك حالة الفوضى في إدارة السعودية للأزمة، والإعلان عنها، ومراوغتها في قراءة مسبباتها والتعامل مع نتائجها.
من بواعث التقزز والاشمئزاز أن يسارع الوعاظ بتصنيفاتهم المختلفة؛ شيوخاً وإعلاميين وكتّاباً ومسوؤلين –بتنوع خلفياتهم واصطفافاتهم- إلى التعليق على حادثتي الرافعة ومِنى، وهو ما يثبت سوء الحال التي بلغناها، إذ لم تعد غايتنا سوى تسويغ المآسي وتبريرها في سياق الصراع الدائر في منطقتنا، غير مستعدين لمناقشة دوافعه أو مراجعة جذور الانحطاط الذي أصاب عقولنا ومجتمعاتنا، مهما سقط من ضحايا في الحرم المكي لأسباب شتى، أو شهداء في الأقصى على يد احتلال لا نمتلك إرادة ووعياً لمقاومته.
ربع مليون مشاهدة وأزيد لفيديو العريفي، بمجرد وضعه على اليوتيوب، وهو يعفي بلاده من مسؤوليتها عن الكارثة باعتبار أن الموت كان سيلاحق وفيات الحجيج وإن بقوا في بيوتهم، وهي دعاية سياسية تشارك في ترويجها زعماء وسياسيون ووزراء أوقاف عرب اندفعوا لتبرئة السعودية قبل أن يطمئنوا على حجاج بلادهم، بل إن بعضهم أنكر وقوع إصابات بينهم، ثم اضطر في وقت متأخر للكشف عن أسماء المصابين في صفوفهم.
لم يعد مهماً معرفة مآلات التحقيق ومحاسبة المسؤولين السعوديين عن الواقعة، وفهم الإرباك الحاصل في الإعلان عن أعداد الموتى وعدم القدرة على حصرهم، أو ظهور مفقودين لم يعثر عليهم متوفين أو جرحى، وهو أمر بدا مستغرباً، بينما يشدد المناوئون للسعودية على عجزها، ما "يستدعي اعتذاراً منها للأمة الإسلامية"، وهو "مطلب" لا معنى له بالنظر إلى مئات آلاف القتلى في حروب استنزاف تدور رحاها في العراق وسوريا واليمن، وتغذيها أحقاد مذهبية تبرع الرباض وطهران في إيقادها!
يحق لنا جميعاً طرح تساؤلات خارج الأجندات المفروضة علينا، فما معنى أن يحج مليونا مسلم بتكلفة تصل إلى حوالي 10 مليارات دولار تكفي لإطعام 33 مليون جائع في الوطن العربي طوال العام، أو بناء مئات المدارس لحوالي 100 مليون عربي يعانون الأميّة، ناهيك عن واقع صحي مرير يفضحه نقص الأسرّة في المستشفيات، وقلة الأطباء والاختصاصيين منهم تحديداً، والتراجع المهول في رعاية الأمراض المستعصية.
سيخرج كثيرون للقول إن مكافحة الفقر ودعم التعليم والصحة لا يتعارضان مع أداء الفرائض، وهي مقولة مجانية يجري إطلاقها على الدوام بلا طائل، فلم تقم الجهة التي تستفيد من أرباح الحج بإلزام نفسها –مثلاً- دفع أموال منتظمة لمسلمين وعرب يواجهون ارتفاع أعداد الجوعى والأميين والمرضى، لكن هؤلاء ملزمون بتأدية مناسك الحج، بوصفها أحد أركان الإسلام الخمسة، المختلف عليها، حيث يؤشر باحثون عديدون على عدم ذكرها في القرآن.
يذكر التاريخ تعطيل موسم الحج أكثر من مرة، ولم يتضرر المسلمون مثلما يتأذون عند تعطيل تفكيرهم واتباع غرائزهم الطائفية والمذهبية، بل إن الكعبة جرى هدم جزء منها وإحراقها من قبل الحصين الكندي قائد جيوش يزيد بن معاوية، وتعرضت للتدمير مرة أخرى على يد الحجاج بأوامر عبد الملك بن مروان، وألغى القرامطة الحج 22 عاماً بعد أن نقلوا الحجر الأسود من موضعه، وكشفت هذه الحوادث مصائب الاقتتال الداخلي واستعداد المتقاتلين إلى استغلال الدين في سبيل الحصول على الحكْم.
لم تغب الكعبة يوماً عن الصراع بين المسلمين أنفسهم تاريخياً، حيث تواصل التشكيك بجميع السلطات المتعاقبة التي سيطرت عليها، واتفقت على مسألة وحيدة تتمثل في تكريس زيارة البيت الحرام طقساً شكلياً فقط، وإنهاء اعتباره مؤتمراً سنوياً يتباحث خلاله الحجاج مشاكلهم وتظلماتهم، وبذلك لم يعد هناك فارق يذكر بين الحج في أيام الوثنية أو في عهد الإسلام!
لا يمكن النظر إلى القضية كونها عبادة بشكلٍ يجردها من "التسييس" طوال 1400 عاماً، ويفصلها عن واقع عربي ينهار اقتصادياً واجتماعياً وأخلاقياً، فيما تحاصر الأبراج والمطاعم والمولات محيط الحرم المكي –في أبشع معمار يهدف إلى طمس معالم مكة القديمة- ما يجبرنا على الاختيار بين مواصلة الطواف حول عقلٍ ماضٍ أو الحج إلى مستقبلٍ يقضي على أشكال التجهيل والتفقير كافةً.
محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.