الجدار

الجدار

 

 

شيّد الإنسانُ الجدارَ الأول ليسدّ باب كهفه رغبة بتجنّب أخطار بيئته المحيطة، ومنذ تلك اللحظة غادر حضن الطبيعة الأم إلى غير رجعة، وأصبحت هذه الجدران خطوطاً تفصله عن بني جنسه، وتولّدت أسوأ ممارستين لديه؛ الحرب من أجل توسعة ملكيته المستحدثة، ومنع حرية التفكير بزعم حماية هذه الممتلكات.

 

ومع ذلك أعلى البشر من الجدار، معنوياً ومادياً، حتى أنهم نسوا الأسباب الفعلية وراء إنشائه، بل اخترعوا خرافات ومعتقدات سعياً لتبريره وإدامته، مثل ارتداء زيّ محدد، أو تقديس سلطة أو نص، أو عدائهم لفئة محددة، وباتت جدرهم جزءاً من حياتهم يصعب التخلي عنها، سواء أفادتهم أم جلبت لهم المصائب، وفي كل مرة احتجوا على قيامها تكبدوا خسائر لا تعني بالضرورة إمكانية تحررهم منها.

 

وقد يبدو من السذاجة، اليوم، الحديث عن فقدان المرء مناعته، تدريجياً، حين سدّ الحائط الرابع –المتتم لمغارته- وبدأت علل كثيرة بالظهور ربما يكون أبرزها الربو وأمراض التنفس.

 

ومهما حاول البعض الدفاع عن قيم الجمال والفن في إبداع كل هذه الأسوار والأبنية، خلال عشرة آلاف عام، إلاّ أن نظرة متعمقة على المنجز المعماري الإنساني يبرز ارتباطه الوثيق بتثبيت السلطة، إذ توسط قصر الحاكم والمعبد، تحالف الدين والحكّم، جميع مدن العالم القديم –لم يختلف الأمر كثيراً اليوم- ثم بنيت الأسواق حولهما في إشارة إلى دور المال ومكانته.

 

وجسّد كل بناء وظائف عملية متعددة، لكن ظلت الوظيفة الأولى وراء تشييده هي الحفاظ على النظام السائد، فلم تكن عبثاً السقوف العالية والفخامة في عمارة القصور والكنائس والمساجد، وكيفية بناء السجون لتفعيل المراقبة والعقاب، وهو موضوع شغل الفلاسفة منذ أرسطو وأفلاطون، مروراً بابن خلدون، وليس انتهاءً بميشال فوكو.

 

مئات ملايين البشر العزّل، خلافاً للمقاتلين، ماتوا في سبيل بقاء كل هذه الجدران المنتصبة، ولا يزال المؤرخون يبحثون عن روايات جديدة تسوغ سفك الدم وشهوة التدمير، وهي تلقى رواجاً لدى مختلف الشعوب المتعطشة لتمجيد انتصاراتها وخلق أبطالها على الدوام، ولا يغيب عن البال تلك البيوت والحيطان التي تكتسب قدسية، في لحظة تاريخية، وتغدو محجاً أو معبداً، وربما أشعلت لأجلها معارك لا تنتهي، وتكون أقساها طبعاً بين أبناء العمومة أو أتباع الدين الواحد.

 

على أن أبشع جدار ليس هذا التقاتل على الملكيات والأراضي والأطيان، الذي تتطور أداوته مع تقدّم العلم والتكنولوجيا، إنما ذلك الحجاب الذي يُفرض على العقول فيصاب المرء بالعمى ليساق إلى أحط درجات وحشيته، الذي ادعى أنه أسس المدن ومدنيته للتخلص منها، لكنه بدلاً من ذلك ضاعف تلك الحجب، وتفاقمت معاناته معها.

 

إلى ذلك تلتقي البشرية جمعاء في بؤس الجدار، لكن ما يجعل المواطن العربي يعيش واقعاً أكثر قتامة، وينتظر مصيراً مجهولاً، هو انخراطه في حرب لا تمثله ستقود حتماً إلى تسوية يغيب عنها، وإن حضرها  فسيكون ذلك بوصفه شاهد زور، وهذا لا ينطبق فقط على النزاعات الدائرة في سورية والعراق وليبيا واليمن، وما قد ينشب مستقبلاً، بل يشمل مختلف الإشكاليات التي نعيشها اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.

 

حجاب يغطي العقل، ويعيق احتجاجنا في اتجاه التغيير؛ عمالاً لانتزاع حقوقهم من أرباب العمل، مواطنين لاستعادة مواطنتهم والقانون، أفراداً لإنهاء تدخل الدين في الحياة العامة، ولإحداث ثورة في لغتنا العربية المأسورة في زنزاين الماضي، و... و...

 

مجرد جدار اخترعه العقل البشري بذريعة حمايتنا، فأفنينا العمر في حراسته!

 

محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.

أضف تعليقك