الجالية البشرية الكريمة

الجالية البشرية الكريمة
الرابط المختصر

يرتكب البشر، أفراداً وجماعات، الكثير من الفظائع على نحو يومي، وبطرق ممنهجةٍ وعشوائيةٍ؛ وأول هذه الفظائع، وأشدّها حمقاً وخيلاء، هي اعتقاد البشر الأرعن بأنهم الجالية الوحيدة في دولة الحياة، وأنّ ممالك الحيوان والنبات وبقية الكائنات هي مجرد إضافات ثانوية، وجدت لراحتهم ومتعتهم.

هذا الاعتقاد بالذات يحوّل البشر، في بعض الأحيان، إلى حيواناتٍ مفترسةٍ، تفتك بنفسها وبكل شيءٍ عداها، في تطبيقٍ مذهلٍ لشريعة الغاب كما هي في العقل البشري. وشريعة الغاب في العقل البشري أشد حيوانيةً مما هي في عالم الحيوان.

وهذا الاعتقاد يحوّل البشر، في أحيان أخرى، إلى مجرد أعشابٍ ضارةٍ، تستنزف أية إمكانيةٍ إيجابيةٍ في الحياة؛ ويجعلهم في أحيان ثالثة مكائن وآلات لا تنتج إلا العوادم التي تدمر بيئتهم التي يعيشون فيها مع غيرهم من الكائنات، لكن أشد العوادم البشرية خطراً هي الحمق والرعونة والخيلاء.

لقد قادتنا حماقتنا إلى الاعتقاد بأننا أشد أشكال الوجود تطوّراً، وأكثرها قدرةً على التفكير، واستخداماً للعقل. هذا رغم أنّ عقلنا سهل العطب، ميالٌ للانحطاط، والغرق في الفوضى.

وجعلتنا رعونتنا نتصرف بما نملكه ونتشارك به مع غيرنا، وبغيرنا، بطريقةٍ مستهترةٍ لا تنتج شيئاً، ولكن تهدر كل الفرص والإمكانيات الإيجابية المتاحة، وأول هذه الفرص المهدورة وأثمنها هي الحياة نفسها!

وتدفعنا الخيلاء المفرطة إلى الاستعلاء على غيرنا من الكائنات وأشكال الوجود، رغم أننا في حقيقة الأمر مجرد جاليةٍ بشريةٍ في دولة الحياة، تعيش وسط بحرٍ من الجاليات الأخرى؛ فوضَعنا قوانينا الخاصة، وأنشأنا مؤسساتنا، وبنينا منظوماتنا الفكرية التي تؤمن تبرر حقنا الحصري في حكم الأرض.

ولم تكفنا الأرض، فزعمنا أن السماء ترعانا وتعتد بنا. وأخذنا الشطط في ذلك إلى درجة أننا بتنا نستقوي بالسماء على بعضنا بعضاً، ونتقمص إرادتها المفترضة ليقتل أحدنا الآخر "بضميرٍ مرتاحٍ ودمٍ باردٍ" من دون أن يحرمنا ذلك من الحق في الاستعلاء على الحيوانات المفترسة، واستهجان شريعة الغاب.

الواقع أننا أسوأ جالية على الاطلاق، في دولة الحياة. وأسوأ مظاهر السوء هي ما يسمى بـ"السياسة"؛ التي يتفرغ لها، أو يتمنى أن يتفرغ لها جلّنا. وهذه مصيبة، جاءت من حجم نفوذ السياسة الهائل، علماً أنه بحجم نفوذ السياسة يكون الفساد، تماماً كما تكون الجريمة بحجم نفوذ المال.

هل يمكن مثلاً أن نتخيل مملكة النحل العاملة، وقد أعطت لـ"السياسة" حقها، وهل يمكننا أن نتصور "السياسة وقد أصبحت مهنةً مرموقةً في هذي المملكة؟ أظن أننا حينها لن نجد قطرة عسل واحدة!

"السياسة" تحتل عقلنا. أضحت مهنة مدرّة للمال، وتصنع الجاه. غير أنها لليوم تبقى، رغم هذا كله، مثال على أسوأ ما فينا، وعلى استعدادنا البشري الدفين للقبول بالفبركات والهمبكات والإهدار شرط أن نكون نحن أولياء على تنفيذه؛ ففي هذا راحة النفس البشرية.

وراحة النفس البشرية تتحقق، على ما يبدو، في الحمق والرعونة والخيلاء، ولهذا، ربما ليس علينا أن نعجب من أننا نبلغ من الحمق أحياناً حد محاولة تمييز أنفسنا عن سوانا باستخدام أسوأ ما فينا، فنتباهى بأننا نحن البشر "كائنات سياسية". وهذا ربما يميزنا عن الحيوانات، ولكنه لا يجعلنا كائنات أفضل!

 

ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.

أضف تعليقك