الثورة والمجانين
الثورة تحلف بأسماء الفقراء والمقهورين، وأربعة نزلاء في مستشفى المجانين يرددون هتافات أبطالها. يتسامر أربعتهم في مستشفى يتوسط المدينة، التي لم تر النور منذ عقود طويلة، وهم يحلمون طوال إقامتهم المديدة بثورة تبدد انكساراتهم، وتمسح حزناً يملأ لياليهم رغم مفعول المهدئات القوية.
أستاذ المدرسة يذكّر رفاقَ "الجنون" بطلابه الذين أخافه مستقبلهم المظلم، من خلال "السطو" على عقولهم، مؤمناً بأن الثورة ستعيده إليهم، وتفكّ عنه إسار عزلته. الفنان لم يستطع مقاومة "أعداء الإبداع"، كما يسميهم، وهرب من مجتمع يكبله "التعصب"، وسلطة دينية لا تعير الفن أي اهتمام إلاّ قدرته على تشويه الإنسان، وتقديس الرموز والبطولات "الزائفة".
رجل الأمن الذي استقال من عمله، ورفض تنفيذ أوامر إدارته بـ "تجنيد" طلاب جامعة "المستقبل"، وقد اختار مستشفى الأمراض النفسية على سلطة "فاسدة"، إذ لم يجد أحداً يحترمه لنفسه باستثناء المرضى.
"مسبّع الكارات" لم يهنأ بعطف والدٍ عاجز إلاّ من تسلطه، وعندما ترك منزل الأسرة وتعلّم مهناً عدةً، اصطدم بأناس يعيشون على الغش والخداع واستقواء "الكبير" على "الصغير", فاحتمى بـ "جنونه" من غدر "الصغار!
الثورة تسير من دون أن تنتظر أحداً، وتسابق الزمن، فيلحقها المارّة ويتشبث بها المنكسرون والمستضعفون، ويعلقون على راياتها الأمنيات والتمائم. والرفاق الأربعة يرقبونها من "نافذة الأمل"، ويرسمون بمخيلتهم - تحت خدر المسكّن- كل أساليب نجاحها, ويسخرون من ضعف الحاكم ونفاق حاشيته والأعوان المزيفين.
في العنبر المعتم، تصلهم أهازيج الفرح بانتصار الثورة في الحي الذي يحتضن مستشفاهم, فتنطلق صيحات المجانين ويصدحون بغناء متصل. عقب أسابيع من سيطرة الثوار على الحكم، أعلن المجانين صومهم عن الكلام والطعام حتى حضر مدير المستشفى في أول الليل ليتلو عليهم عبارة واحدة: أنتم مجانين بعُرف الأنظمة البائدة والثوار الجدد في آن.
المجانين الأربعة ناموا ليلتهم تلك يحلمون بالثورة: المعلم حلم بطلابه يكسرون أقفال المدرسة نقمةً على بؤسهم، والفنان بحديقة ورود، ورجل الأمن بمدينة خالية من عناصر الأمن، فيما حلم "مسبع الكارات" بأبٍ يُعانقه لينام.
- استعادة لمقال قديم نُشر في مطلع نيسان/ إبريل 2011.
- محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.