التديُّنُ الرسميُّ بصفته تدبيراً وقائياً
"الأردن يُحرّمُ الموسيقى" ويُجيزُ "رضاعَ الكبيرِ للتداوي"، و"لا يُجيزُ نتفَ الحواجب وتدقيقها"، ولا "طلاء أظافر المرأة لغير زوجها". ماذا لو قرأنا مثل ذلك عناوينَ لأخبارٍ في الصفحات الأخيرة من الصحف المخصصة للطرائف والغرائب، أو شاهدناها منشورةً في وسائل التواصل الاجتماعيّ على امتداد الشبكات، وزخم المدوّنين والمغرّدين، يُضافُ إليها حضورنا الدائم في الإعلام العربيّ، وشهرتنا الذائعة في"جرائم الشرف"، والتفرُّد في "القضاء العشائري" الذي يحكم بقطع اللسان، أو افتدائه بالإبل..!
توفّرُ الدولةُ الأردنية للإعلام عناوين مثيرة، وجاذبة للقراء، مدعومةً بمحتوى، يبدو كوميديّاً، قبلَ أنْ يعرفَ القراء أنّ دائرة الإفتاء العام الرسمية في الأردن قد أجابت عن سؤالٍ حول حكم سماع الأغاني، فأفتى سماحة المفتي العام الدكتور نوح علي سليمان، حينها، إن "الغناء المجرّد إذا كان بغير صوت النساء، فلا بأس به، أما إذا صاحبته الموسيقى فهو حرام". الحكمُ نفسه ينطبقُ على سؤال آخر عن جواز سماع الأغاني الوطنية، نشرته الدائرة على موقعها الرسميّ.
الإثارةُ هنا محكومةٌ بمرجع الفتوى، ومصدرها. لم تصدر عن "لجنة علماء الشريعة" التابعة لجماعة "الإخوان المسلمين". لم ينشرها دعاةٌ أصوليون مطبوعون بالتطرُّف، مثل محمد العريفي، وعبد العزيز الطريفي، وسواهما. ممن يلخّصون ثقافة دينية متشددة، فيذهبُ تقويمها إلى اجتهادٍ فرديّ محمول على غلوّ الدعاة. إنها من دائرةٍ حكوميّة، تُمثَّلُ المؤسسة الدينية الرسمية في الأردن، وعليه فإنَ العَنْوَنَة في مسار "الأردن يُحرُّم الموسيقى" لا ينطوي على شطط، أو خطأ مهنيّ في الصحافة.
"حواجبي غليظة جداً.. ممكن تخفيفها؟". تسألُ فتاة، فيجيبُ سماحته: "قصّ الحاجب الغليظ جائز، ولكن لا يجوز نتفه، وتدقيقه". وهل "يجوزُ للرجل أنْ يشربَ من لبن زوجته المرضع؟". الافتاءُ الرسميّ الأردنيّ هنا تفوّق على مراكز دينية منافسة في الجوار، لجهة تقييد الإطلاق في الفعل. يُجيبُ سماحته: "رضاعُ الكبير لا يجوز إلا للتداوي، إنْ لم يوجد بديلٌ يُغني عنه، مع العلم إنه لو رضعَ الكبيرُ لا يصيرُ ابناً لصاحبة اللبن من الرضاعة"..!
كذلك. تُحرِّمُ الفتاوى المنشورةُ كلامَ المرأة مع "صديقٍ من الجنس الآخر"، وتالياً "مُصافحة الرجال للنساء"، وتُجيزُ تطليقَ المرأة إنْ أصرّت على ترك الصلاة، وتذهبُ أبعدَ من المذهب الحنفي الذي تعتمده منهجاً لأحكامها في المسائل المعاصرة، ليس أقلها أنّ "وضوءَ المرأة لا يصحُّ مع وجود طلاء الاظافر"، وأنّ "المعتمد عدم جواز" أن تُظهرَ المرأةُ المسلمة شعرها للمرأة المسيحية.
دائرة الافتاء تأسست العام1921، واستقلت، قبل أعوام، عن وزارة الأوقاف، وهي تلخّص رسالتها بـ"ترسيخ مفهوم المرجعية الفقهية الدينية الوسطية في بيان الأحكام الشرعية"، لكنّ اجتهاداتها الفقهية المُعلنة، لا تهجسُ بـ"الوسطية والاعتدال"، ولا تتوخّى أي إصلاح فقهيّ، حالها حال مثيلاتها في العالم العربيّ، على اختلاف الأنظمة السياسية، وتباين القوة والضعف في تأثير الدين والتديّن، ومصالح المركزين الرئيسيين: (الأزهريّة المصرية، والسلفيّة السعودية).. والحرص على الوئام الشديد معهما.
واقعياً. الأردن أقرب إلى النموذج المصريّ، فهو يُبيحُ الموسيقى والسينما، ومهرجان جرش، وغيره، ترعاهُ مؤسسة الحكم، ولا تبدو قلقةً من الأظافر والمصافحة، ولديها مستشفيات تسمحُ للأطباء الرجال بتوليد النساء، على نقيض فتوى، نشرتها الدائرة، إلا أنها تجليّات الفصام في أكثر من بعد، وفي مستوياتٍ مدروسة. الدولةُ متورطة في الانحياز والإنكار معاً، وكلُّ ذلك محكومٌ بالمخاوف، وبالهشاشة على مواجهة التهديد، والأغلب عدمُ فهمه، وتحليله في مسارات الدين والتديّن فقط، وفي انتكاساتها المستمرة في صناعة السمعة، وقد حققت خساراتٍ مؤكدة واستنزافاً كبيراً للرصيد القديم في أكثر من جانب. منجودة الخدمات الطبية، إلى نوعية التعليم، ومستوى خريجي الجامعات، خصوصاً في السوق الخليجية.
تسويقيّاً، يخسرُ الأردن من "وسطيته واعتداله" من حيث تظنُّ دوائر الحكم (الأمنية تحديداً) أنّ "تحريم الموسيقى" مثلاً، يندرج في تدبير وقائيّ، يروقُ للشارع المتديّن، وينأى بها عن الاصطدام معه، أو خطفه من قوى دينية مُسيّسة. ودائماً هي لا تأبهُ لسائر القوى الاجتماعية الليبرالية المتضررة من هذا "التنادد" المستمر.
مؤسستان تلخّصان الأردن اليوم. أمنيّة، تصارعُ على الحد الأدنى من العزم المطلوب لدفع العجلة، بتحالفاتٍ داخلية وخارجية غامضة، يدمغها الاعتراف بشحّ الموارد، والحاجة لأكتاف الآخرين، ودينية، تعرفُ "من أين تُؤكلُ كتفُ" المجتمع. المحصلة أنّ ذلك الفصام يرسمُ حدود الصراع وجوهره، ويتلذّذُ برخي الحِبال وشدّها، ظنَّاً أنه يفوزُ، وظّناً أنها مجردُ لعبة..
باسل رفايعة: صحافيّ أردنيّ، عمل في صحف يومية محلية، وعربية.