التجنيس وسحب الجنسيات ... أكاذيب وحقائق

التجنيس وسحب الجنسيات ... أكاذيب وحقائق
الرابط المختصر

حسناً ، سنتحدث بصراحة وكثير من الوضوح ، وسنتناول بعقل بارد ، واحدة من أكثر القضايا سخونة في الجدل الوطني العام ، تلك المتصلة بالتجنيس وسحب الجنسيات ، فأنا من مدرسة تؤمن بأن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين ، وأن عدم تناول المشاكل والتحديات التي تجابهنا ، يزيدها تفاقماً بدل أن يضعها على سكة الحلول والمعالجات.

قبل أيام ، كنا في جلسة حوارية ضيّقة ، في مركز القدس للدراسات السياسية ، مع نخبة قليلة من الأردنيين ، من شتى المشارب والاتجاهات والمنابت والأصول...وكان من بين الحاضرين ، ممثل بارز ومحترم عن "لجنة المتقاعدين العسكريين" ، أمتنع عن ذكر اسمه عملاً بنظرية "المجالس أمانات"...وأنقل عنه قوله "أن 47 ألف فلسطيني حصلوا على الجنسية الأردنية في السنوات الأربع الأخيرة"...وقد نسب المتحدث العزيز معلوماته إلى مصدر موثوق وواسع الاطلاع ، وأحسب أنه كان مقتنعاً تماماً بصحة المعلومة وما أدلى به من معلومات ، ولم أجد من ناحيتي ، سبباً يدعوني لعدم تصديقه ، بل أنني "ملت" للتعاطف مع حملته ضد "التجنيس السياسي" ، فأنا أيضاً من مدرسة تؤمن بأن الأردن أردن ، وفلسطين فلسطين...وأن الحفاظ على الهوية الأردنية الوطنية والتقدمية والديمقراطية ، المنفتحة على الإنسانية الرحبة ، قضية لا تقل أهمية عن الحفاظ على الهوية الفلسطينية ، الوطنية والتقدمية والديمقراطية المقاتلة والمقاومة.

قبل تلك الجلسة بأيام ، كانت الساحة السياسية الأردنية منشغلة ببيان عُرًفَ بعدد الموقعين عليه: "بيان الـ36" ، وفيه أن مكتب الملكة رانيا العبدالله ، سهّل مساعيّ 78 ألف فلسطيني للحصول على الجنسية الأردنية... وقد نقلت الوكالات العالمية مضامين البيان ، وأصدر الديوان الملكي بياناً توضيحياً مضاداً ، ولقد أصبح كل هذا وذاك وتلك ، ملكاً للصحافة ووسائل الإعلام ، ولهذا لا أجد حرجاً في إعادة النشر والاقتباس وتسمية الوقائع بأسمائها....ودعوني هنا أن أستبعد سوء النيّة ، وأن أفترض أيضاً بأن موقعي "بيان الـ36" تلقوا معلومات كاذبة عن أعداد من تم تجنيسهم في السنوات الأخيرة ، وبالأخص من الفلسطينيين.

مرة أخرى ، لم أجد ، كما لم يجد غيري ، "رقماً" حقيقياً نرد به على هذا الرقم الزائف...واكتفينا بالتحليل والتفسير والتكهن والتخمين...إلى أن طلعت علينا صحيفة "الدستور" أمس ، بجردة حساب مع قضايا التجنيس ، تبدأ من الفاتح من يناير عام 2000 وحتى ثلاثة أسابيع خلت 17( ـ 2 ـ 2011)...تقول "الدستور" أن إجمالي الأشخاص الذي حصلوا على الجنسية الأردنية خلال عقد كامل من الزمان 48و يوماً ، لم يزد على 46 ألف شخص ، إلا قليلا (46058) ، أكثر من 80 بالمائة منهم (37150) من غير الأردنيات المتزوجات بأردنيين ، في حين بلغ عدد المستثنيين من تعليمات فك الارتباط بقرار من الوزير (217) مواطناً فقط ، أما البقية فمنهم من قرر استعادة جنسيته بعد أن تخلى عنها للحصول على جنسية أخرى (2200) ، وقد حصل (1322) مواطناً عربياً وأجنبياً على الجنسية سنداً لأحكام القانون و(5169) صوبوا أوضاعهم.

ودعوني أصدقكم القول ، بأنني لفرط ما استمعت لأرقام "مهولة" و"متفاوتة" حول تجنيس الفلسطينيين في الأردن ، بتّ قلقاً بكل ما للكمة من "معنى سياسي" ، فليس من مصلحة الأردن ولا من المصلحة الفلسطينية في شيء ، أن تكون هذه المعلومات صحيحة...ولهذا بادرت للتحقق من صحة ما أوردته "الدستور" بالأمس ، ولم أجرؤ على تناول هذه المسألة ، إلا بعد أن تلقيت تأكيدات قاطعة ، بأن مصدر الصحيفة لا يأتيه الباطل لا عن يمين ولا عن شمال.

خلاصة ما أود أن أقوله هنا ، أن غياب المعلومة ، وليس توفر أو توفيرها ، يصبح في كثير من الأحيان ، مبعثاً للقلق وتهديداً للأمن والاستقرار...وهي الذريعة التي تستلها الحكومات في كل مرة نطلب فيها معلومات دقيقة حول ما يجري من حراك سكاني في بلادنا...لكأننا أمام سر الأسرار ولغز الألغاز...علماً بأنه في كل مرة كانت تنشر فيها معلومات حقيقية عن الخريطة الديموغرافية للبلاد ، تكون النتائج مريحة في الغالب الأعم.

وأذكر على سبيل المثال ، إقدام رئيس الوزراء الأسبق المهندس علي أبو الراغب في العام 2002 على الإفصاح بأن نسبة الناخبين الأردنيين من أصول فلسطينيين إلى إجمالي عدد الناخبين تبلغ 43( بالمائة)...يومها ، لم تتزلزل الأرض ولا هي مادت تحت أقدامنا...وبعد ذلك ، لم تكن الإحصاءات المنشورة عن دائرة الجسور إبان انتفاضة الأقصى سوى مبعث للطمأنينة عند الأردنيين ، كل الأردنيين ، ومن شتى المنابت والأصول ، حيث أظهرت تلك الإحصاءات عدم وجود هجرة فلسطينية إلى الأردن...وها نحن نعرف اليوم ، أن أعداد المتجنسين اسثناءً لا تزيد عن (217) مواطنا طوال 242 شهراً ، فيزيدنا الأمر طمأنينة فوق الاطمئنان.

في غياب المعلومة ، تصبح الشائعات هي مصدر الأخبار ، وتصبح لها "اليد العليا" في تشكيل المواقف والاتجاهات ، ألم تكن المخاوف من التجنيس ، سبباً وراء نشوء بعض الحركات الاحتجاجية ذات الصوت المرتفع مؤخراً؟...ألم تكن ذريعة استخدمتها عناصر التأزيم والتوتير في مجتمعنا؟...ألم تعزف على نغمتها القوى الإقليمية والإقصائية المتطرفة؟...ما الأفضل لمصلحة الأردن وحفظ أمنه وصون استقراره: الشفافية والإفصاح عن هذه المعلومات ، أم التكتم والإنكار مع كل ما يمكن أن يترتب على ذلك من تسريبات وشائعات؟...لماذا تترك الحكومات هذا الفراغ المعلوماتي لكي تملأه "شخصيات نافذة" ، نعرف وتعرفون أن أجنداتها إقصائية تماماً ، وإقليمية بالغ التطرف ، وكل مؤهلاتها أنها شغلت مناصب عليا ذات يوم ، ومن دون أن يسقط ذلك عنها ، شبهة الوقوع في مستنقع الافتئات والافتراء والتضخيم والتزوير والمبالغة المدفوعة بأجندات سياسية...هل تذكرون حكاية تجنيس أبناء الأردنيات ، يومها قيل أن عدد سكان المملكة سيزيد بنصف مليون مواطن صبيحة اليوم التالي لصدور قانون من هذا النوع...يومها كان عدد الأردن لا يزيد عن خمسة ملايين ، أي أن الزيادة كانت لتبلغ في ليلة واحدة ، عشرة بالمائة من السكان ، وبما يتخطى الأثر الكارثي لحرب الخليج الثانية وموسم النزوح من الكويت للأردن...أنظروا كيف يتم التلاعب بالأرقام لأغراض سياسية ، أنظروا كيف يوظف هؤلاء غياب الشفافية والإفصاح في إذكاء المخاوف والغرائز. (بالمناسبة ، تشير كافة التقديرات لأعداد أبناء الأردنيات لا تصل إلى خمسة بالمائة من الرقم المذكور).

يبقى أن نعود لرقم سياسي آخر ، يجري تداوله أيضاً بلغة الهمس والإشاعة ، ذاك الذي يتحدث عن مليون ومئتي ألف فلسطيني يقيمون في الأردن ويحملون وثائق سفر أردنية بلا أرقام وطنية ولا جنسيات...هل هو رقم صحيح أيضا أم مبالغ فيه؟...من هم هؤلاء وكيف تجمّع هذا العدد وتراكم....أسئلة وتساؤلات ، نرغب في سماع أجوبة رسمية عليها ، بدل أن ننتظر سبقاً صحفياً آخر للزملاء الأعزاء في الدستور الغراء ، يهدئ من روع الناس ويضع الحوار الوطني على سكته الصحيحة.

الدستور

أضف تعليقك