البغيّ: تحيّزات لغويّة، تحيّزات ذكوريّة
لم يدّخر المعجم العربي وسعًا في رسم حدود الدلالة اللغوية لمفهوم البغي؛ فهي المرأة الفاجرة التي تتكسب بفجورها، والتصقت صفة البغي بالإماء، فقيل: البغي الأمة، فاجرة كانت أو غير فاجرة، والبغايا الإماء لأنهن كن يفجرن، والواحدة بغي والجمع بغايا. وقد دلّت كلمة بغايا على الإماء أولًا، ثم كثرت فشملت الفواجر كافة إماء كنّ أو حرائر. وذُكر في القرآن الكريم تنزيه مريم العذراء عن كونها بغيًا، "قالت: أنّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا"، (مريم: 20). كما نُزّهت والدتها عن ذلك في قوله تعالى: "ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا"، (مريم: 28) ونهى الله عز وجل عن إكراه الفتيات على الفجور: "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء"، (النور: 33). وفي الحديث النبوي الوارد في صحيحي البخاري ومسلم: امرأة بغي من بغايا بني إسرائيل دخلت الجنة في كلب سقته بخفها. ولا يختلف مفهوم المومس عن مفهوم البغي، فهو يشير إلى المرأة الزانية تميل لمريدها، وربما سميت الإماء مومسات، والمومسات الفواجر مجاهرة. وأما الدعارة، فتعني الفسق والفجور والخبث، والمرأة داعرة أي فاجرة، فهذا هو الحقل الدلالي للبغي والبغاء في لسان العرب.[1]
ولا يخفى أن مفهوم البغي خصّ بالنساء دون الرجال، فلا يقال: رجل بغي، أو رجل مومس، ما يعني تحيزًا بحسب النوع الاجتماعي للإنسان، فقد جرى لصقه بالمرأة من غير شمول للرجل به، كما اكتسى المفهومان، في بدايتهما، بتحيز طبقي للتمييز بين الإماء والحرائر، قبل أن تلتحم الدلالة فتشملهما معًا. وأما لفظة داعرة، فلها دلالة سلبية حينما تتصل بالمرأة، بينما تتلاشي هذه الدلالة تقريبًا حينما يتعلق الأمر بالرجل. وإلى ذلك، فقد انحازت اللغة ذاتها إلى الرجل، كما انعكس ذلك في الواقع وفي الثقافة الاجتماعية، فحينما يدور الحديث عن الدعارة أو البغاء أو المومسات ينصبّ التركيز جلّه على المرأة، إلى درجة يخيّل فيها إلينا أن المرأة تمارس الفجور بمفردها، وأنه لا يوجد رجل في المقابل يشاركها ذلك.
كانت شخصية البغي في مرحلة تاريخية مقدسة، لارتباطها بالقوى الإخصابية، وكونها القوة المعتمد عليها لتمد الحياة بالمعنى
أفاض إبراهيم محمود في كتابه "الضلع الأعوج" في الحديث عن المنظور الذكوري المسيّس، والعقل الأبوي التبريري الذي يؤلّف أحداثه، ويركّب تاريخه، ويختار منه ما يتفق وذكوريته، مهمّشًا الأنثى؛ إذ "قدمت لنا نصوص أسطورية وغير أسطورية المرأة بوصفها فاجرة متهتكة. والفجور، كما يبدو، هو أن تمنح نفسها لأيّ كان. والمرأة الفاجرة هي الفارجة، هي التي تفرج ما بين فخذيها، مسلّمة فرجها للآخر، فيقوم الآخر بهتكها متلذّذًا بجسدها. وباعتبارها جسدًا مجوفًا، هو مجال للّذة، وفضاء للشبق، وإطار للمتعة فقط"[2]. فقد جرى تحوير للنصوص، ومسخ للتاريخ، حيث اجتزئ منه وبشكل انتقائي، ما يتوافق مع منظور الرجل، الذكر الذي وضع نفسه في مصاف الآلهة، وجعل كل من حوله ميّسرا لخدمته ومتعته، فجرّد المرأة من كل الأدوار التي كانت تقوم بها، وأبقى على الدور الذي ارتضاه لها، ويصب في مصلحته، وإبراز تفوقه في مقابل دونيتها.
إن تحويرا فرضته العقلية الذكورية قد لحق بما كانت تقوم به المرأة، ففي حين كانت تتميز بالسخاء في الإغناء الجنسي متماهية مع الطبيعة، ومساعدة على إخصاب الحياة، ومحررة الذكر من القوى الجامحة فيه، معبرة عن اتحادها معه، ومؤكدة حضورها بوصفها امرأة إنسانيًا، حوّلها الرجل إلى هامش ما هو إنساني، ليصبح المتن رجوليًا، بوصفه ممثلًا لمركزية كونية إنسانية، ثم تبع ذلك قلب مفاهيمي للمرأة، وتلاعب بالألفاظ لخلق معنى مغاير، وامرأة مغايرة، تفنن العقل الجماعي الذكوري في إيجادها، مجرّدًا إياها من خاصيتها الخلقية الإبداعية الإخصابية، وواضعًا إياها في ما هو دوني دلاليًا. فعشتار العاهرة الحنون وراعية البغاء المقدس، الذي كان يدخل في إطار المشاركة في تجديد دورة الحياة، وإخصاب الطبيعة، والبغي التي علمت أنكيدو أصول الانتماء إلى الحياة الأفضل، والارتقاء في سلم الحضارة، وصورة حواء التوراتية، كلها كانت شخصيات فاعلة، ثم ما لبثت أن دفعت ثمن ذلك تهميشًا، وتشويهًا، لتصبح دالة على الفجور والهتك[3].
كانت شخصية البغي في مرحلة تاريخية مقدسة، حالها حال البغي المقدسة؛ لارتباطها بالقوى الإخصابية، وكونها القوة المعتمد عليها لتمد الحياة بالمعنى، وهي تعبر في عملية البغاء المقدس عن كل ما يجعل الحياة تضجّ بالحركة. ومن يتمعن في البغاء، فلا بد أن يلاحظ أن الأكثر قيمة كانت الأكثر تعريضًا لجسدها للآخرين، معبرة بذلك عن الانفتاح الطبيعي، فالطبيعة لا تضن بعطاءاتها على أحد، "وكذلك البغي التي تنفتح بجسدها على أي كان، ثم فقد البغاء قيمته الذاتية حين تمحور على ذاته، واستهلك وظيفيًا. ولعل كلمة البغي هنا، تعبر عن المرأة التي تضاجع الرجال جميعهم، والمرأة القوية التي تواجه الآخرين. وهذا التقابل الموجه يؤكد التحريف الثقافي للمعنى والدلالة؛ أي عندما تحتكر القوة رجوليا/ذكوريا، ومن جهة أخرى، عندما تمنح قيمة تشخيصية تصويرية قمعية، وهي أن كل امرأة تتظاهر بالقوة تصبح بغيًا. وهذا يعني تحذيرًا؛ أي ضرورة أن تبتعد المرأة عن استعمال القوة"[4]. وبذلك نجح الرجل في قلب الأدوار، فبعد أن كانت المرأة هي التي تمتلك القوة، وتمنح الخصب للحياة، وتجعلها تضج بالحركة، وتحظى بالتقديس ممن حولها، اختزل دورها إلى عملية مضاجعة للرجال، وحتى تحظى بالاحترام، فعليها أن تبتعد عن ممارسة القوة، وأن تظهر ضعفها للرجل، وإلا ستوسم بالبغي التي صارت لها دلالة سلبية، حتى وإن امتنعت عن ممارسة البغاء، فمجرد استعمالها للقوة في مواجهة الرجل يعرضها لاكتساب صفة البغي.
ظهرت دراسات وأبحاث كثيرة عن البغاء، وأحوال البغايا من منظور اجتماعي، واقتصادي، أو نفسي (سيكولوجي)، أو استعماري، أو تاريخي، كما ظهر تمثيل لذلك في الإبداع الأدبي شعرًا وسردًا، وفي الفنون بمختلف أنواعها المسرحية، والسينمائية، والدرامية، والرسم، فظهرت صورة المرأة العاهرة المتهتكة، التي تفتك بالرجال، والشبان السذّج منهم، وظهرت المرأة الطاهرة التي قادتها ظروف قاهرة إلى بيع جسدها؛ لتصبح بغيًّا، كما ظهرت المرأة التي تعرضت للاغتصاب، وانتهاك جسدها فدفعها ذلك إلى طريق البغاء، وغيرها. ولعل معظم الحالات التي ظهرت في الآداب والفنون كانت مقدّمة من منظور ذكوري، فقد صاغت الرؤية الذكورية صورة البغي وفق أهوائها، ولم تجسّد حال البغي وما تتعرض له، وتشعر به بشكل يوحي بإدراكها لذلك.
وشاع في الواقع والأدب والفن على حد سواء، أن البغايا يُسقن إلى طريق الرذيلة لأسباب مختلفة، بعضها اجتماعي، وآخر اقتصادي، وثالث سياسي، وجرى التركيز بشكل أساسي على الجانب الاقتصادي، والحاجة المادية التي تؤدي إلى استغلال المرأة، وتدفعها إلى طريق الرذيلة لتصبح بغيّا رغمًا عنها، وضُخّمت معاناتها، وما تتعرض له من إهانات وآلام على أيدي الزبائن الذين يتناوبون عليها، وظهرت دراسات كثيرة تشير إلى أن البغي لا تستمتع في علاقاتها الجنسية مع الرجال، وتبقى تنتظر من يأتي ليخلّصها من ذلك الجحيم الذي تعيش فيه. ولعل هذا الأمر يعود، في اعتقادي، إلى الثقافة الذكورية التي لا تتقبل تعددية العلاقات لدى المرأة؛ فالمرأة مخلوقة لتكون لرجل واحد، وإذا حدث وصارت المرأة لأكثر من رجل فهي رخيصة، وساقطة من الناحية الاجتماعية، ومذنبة، وآثمة من الناحية الدينية، وشقية، وبائسة من الناحية النفسية؛ لأنها تنتهك من قبل عدد لا نهائي من الرجال، بينما يبدو الأمر طبيعيًا لدى الرجال، فالرجل بإمكانه أن يكون لأكثر من امرأة، ومع أنه الطرف المقابل للبغي، ويمكن أن يكون بغيًا أيضًا، ويتنقل بين عدد لا نهائي من النساء، ويستمتع معهن جميعًا، إلا أنه لا يشعر بأن جسده ينتهك، وأنه يعيش في جحيم ينشد الخلاص منه. وتعدد العلاقات لدى الرجل لا تجعله رخيصًا، وساقطًا، بل فحلًا يتباهى بعلاقاته، ولا يشعر بالإثم، ولا يقع عليه العقاب، إذا ما انفضح أمره، ولا يشعر بالشقاء والبؤس من الناحية النفسية، وحالما يقرر التوقف عن غزواته النسائية يُغفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، ولا يتبرأ من ماضيه، ويكون مقبولًا اجتماعيًا، على عكس المرأة التي تدمغها صفة العهر، حتى ولو صارت مريم العذراء. وإلى ذلك، فقد استوطن الاعتقاد السابق حول التعددية لدى الرجل، والتوحيد لدى المرأة في لا وعيها، إلى درجة جعلت النساء عمومًا، ومنهن البغايا ينكرن المتعة في علاقاتهن الجنسية، وحتى الزوجة باتت تخجل من الاعتراف بمتعتها مع زوجها، خشية أن يُشكّ في تعدد علاقاتها قبل الزواج، وتُتهم في عفتها.
حتى تحظى المرأة بالاحترام، فعليها أن تبتعد عن ممارسة القوة، وأن تظهر ضعفها للرجل، وإلا ستوسم بالبغي التي صارت لها دلالة سلبية
وفي ضوء الفكر النسوي، وتفكيك الفكر الأبوي والثقافة الذكورية، لا بد من السعي وراء وعي جديد في التعامل مع هذه الظاهرة بعيدا عن التحيزات جميعها، بدءا من التحيزات اللغوية، وانتهاء بوصمة العار التي تلاحق المرأة التي تورطت لأيّ سبب كان في فخ الدعارة، فانحرف مسار حياتها الطبيعي إلى ممارسة البغاء، إذ إن إعادة النظر في هذه الظاهرة من منظور المساواة بين المرأة والرجل، سيحول دون تلك التحيزات التي تجعل من المرأة مصدر الشرور كلها، بينما يبقى الرجل المشارك في الفعل بعيدا عن كل التصنيفات، ينام قرير العين هانيها، بعد أن يقضي وطره وينفق ماله على اقتناص متعه بدون أن يرف له جفن، وفي الصباح يلعن العاهرة التي كان يتوسدها، وكأنه رجل آخر، معبرا عن ازدواجية المعايير لدى الرجل صاحب العقلية الذكورية الذي لا تشبه حياته السرية حياته العلنية؛ فمن جهة يسعى وراء متعه وينفق المال لأجلها، ويبتهج سرّا بالعشيقة والمرأة العاهرة على نحو احتفالي لا يجده في بيته ومع زوجته، ومن جهة ثانية يلعن من منحته المتعة ويصفها بأقذع الصفات في العلن، ويحرص على ذويه من النساء ويشدد عليهن الخناق، خشية أن ينحرف مسارهن، فيصرن مثل أولئك النساء اللواتي يصفهن بالعاهرات، بدل أن يعيد النظر في أفعاله، ويسعى إلى ضبط أهوائه، وتهذيب غرائزه، ولو أن كل رجل فكر في نفسه وفي ما يقوم به، واستطاع لجم شهواته وغرائزه، وامتنع عن ممارسة الدعارة، لآل حال الدعارة ومؤسساتها إلى البوار، ولأقفلت مؤسسات الدعارة، وأعلنت إفلاسها. أما ازدهار الدعارة ورواجها، فما هو إلا دليل على أنها نار وقودها الرجال والمال، وهما اللذان يزيدان في أوارها!
المصادر:
[1]- ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، 2003، الجزء الثاني، حرف الباء، مادة (بغا). والجزء الخامس، حرف الدال، مادة (دعر).
[2]- إبراهيم محمود: الضلع الأعوج، رياض الريس، بيروت، ط1، 2004، ص136
[3]- المرجع نفسه: ص136، 138، 139
[4]- المرجع السابق نفسه: ص158
*مؤمنون بلا حدود