"الإعدام": مبررات العقوبة انتهاك لحقوق الإنسان
يحتاج ما حدث بالأردن من استئناف تنفيذ عقوبة الإعدام إلى تحليل موضوعي وهادئ بعيداً عن التشنج، والانطلاق في التحليل من منظور حقوق الإنسان، والمبررات التي أدت إلى هذا القرار، والسياق العام، وردة فعل المجتمع الأردني حيال الموضوع.
من منظور حقوق الإنسان فإن الأصل هو أن يتمتع الإنسان بالحق في الحياة وضمان كرامته، ما أكدت عليه العديد من المواثيق الدولية، ومنها ما صادق عليه الأردن كالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وإن كان هذا العهد لم يلغ بصريح العبارة عقوبة الإعدام إلاّ أنه وضع شروطاً حازمة لتطبيق تلك العقوبة، فهذا العهد صدر في عام 1966 في وقت لم يكن المجتمع الدولي قد تطور إلى درجة يتوافق بها على إلغاء العقوبة، ثم جاء البروتوكول الإختياري الثاني الملحق بالعهد الدولي الخاص للحقوق المدنية والسياسية في عام 1989 وقال صراحةً بالإلغاء في مادته الأولى، التي تنص على:
1. لا يعدم أي شخص خاضع للولاية القضائية لدولة طرف في هذا البروتوكول.
2. تتخذ كل دولة طرف جميع التدابير اللازمة لإلغاء عقوبة الإعدام داخل نطاق ولايتها القضائية.
وأوضح البروتوكول أن العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية يهدف بالدرجة الأساسية إلى إلغاء عقوبة الإعدام، وجاء في ديباجته: وإذ تلاحظ أن المادة 6 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية تشير إلي إلغاء عقوبة الإعدام بعبارات توحي بشدة بأن الإلغاء أمر مستصوب.
إذن، نحّى المجتمع الدولي عبر هذا البروتوكول عقوبة الإعدام - وإن كان الأردن لم يصادق عليه، إلا أنه ملزم بالعهد وميثاق الأمم المتحدة- واستقرت عليه حوالي 160 دولة تقريباً، أي غالبية دول العالم، بالعمل على إلغاء العقوبة قانونياً، أو تجميدها خطوة مرحلية لتهيئة المجتمع وتعديل القانون وصولاً إلى الإلغاء الكامل، وكان الأردن من الدول التي اتخذت سياسة التجميد منذ العام 2006.
وتستند مبررات الإلغاء من منظور حقوق الإنسان على المستوى العالمي إلى أن الحق في الحياة هو الأساس، وبالتالي لا ينبغي سلب حياة أي إنسان، لأنه لسنا نحن البشر من منحه هذه الحياة أصلاً.
وأن التطور في المجتمعات ينبني على هدف إصلاح المجتمع، ومنها تحويل غاية العقوبة من أسلوب عقابي بحت إلى أسلوب أصلاحي، لذا ينبغي أن تبنى فترة العقوبة على برامج إصلاحية، وهنالك فرص حقيقية لإصلاح عدد منهم.
قد يجري إيقاع العقوبة، أحياناً، على أشخاص بتهم سياسية تغلف بصيغة قانونية تخالف حقوق الإنسان، مثل تبني أي شخص لآراء سياسية أو انضمامه إلى أحزاب محظورة. ولا يتم توفير ضمانات كافية للمحاكمة العادلة، في دول العالم الثالث عادةً، مما قد يوقع القرار القضائي بالخطأ. وأن هذا النوع من العقوبات التي لا يمكن إيقافها أو جبر الضرر فيها في حال ثبت أن هنالك خطأ ما في اتخاذ القرار.
أمام المبررات والحجج التي انطلقت منها فلسفة ومبادئ حقوق الإنسان، فكيف كانت حجج المؤيدين من المجتمع الأردني بناء على الموقف الرسمي الذي برر إستئناف العقوبة؟ إن أكثر مبرر استخدم هو إعادة هيبة الدولة، على اعتبار أن هنالك ممارسات كثيرة قد نالت من هيبة الدولة، ناهيك أنه مصطلح سياسي ليس له أصل في القانون، في حين أن مسألة تنفيذ عقوبة الإعدام هو موضوع قانوني أساساً، فليس من المفروض استخدام تبريرات سياسية في هذا المجال. وما هو مفهوم "هيبة" الدولة، ومن الذي مس هيبتها؟
مبرر آخر يستخدم كثيراً بأن عقوبة الإعدام هي رادعة للجريمة، وهذا مبرر يوضح مدى انطباعية الكثيرين في تقييم المسألة، فلم يقدم أي شخص ما يثبت أن إيقاع العقوبة سيؤدي إلى تقليص للجريمة، وعلى المدعي بذلك أن يقدم مؤشراته وأرقامه، فحسب التجارب الدولية لا رابط بينهما، فأسباب الجريمة في أي مجتمع متعددة، ففي الأردن ستجد أسباباً منها تراجع الوضع الإقتصادي في السنوات الأخيرة، وما نتج عنه من اضمحلال الطبقة الوسطى التي هي بمثابة صمام الأمان الاجتماعي، وانتشار للفقر، وترسيخ سلوكيات التمييز في المجتمع مثل سياسات القبول في الجامعات، وضعف التوعية المجتمعية لتعزيز ثقافة التعايش واحترام القانون، وضعف ثقة المجتمع بقدرة الدولة على تطبيق القانون ومكافحة الفساد. والأهم من هذا كله، تفشي وانتشار السلاح بالأردن بشكل كبير، ما يثبت أن هناك أسباباً موضوعية مسؤولة عنها، أو عن بعضها، السياسات الرسمية، وعلاجها سيقلل نسب الجريمة حتماً.
ويجدر السؤال إن كانت الدول التي ألغت أو جمدت عقوبة الإعدام قليلة "هيبة"، أو أن معدلات الجريمة لديها في حالة نمو؟ بالطبع لا يوجد ما يؤكد هذا الرابط، فدول أوروبا جميعها ألغت العقوبة، وهي دول ذات سيادة ولها "هيبتها"، ومعدلات الجريمة فيها منخفضة.
ولم تُظهر أرقام دائرة المعلومات الجنائية حول معدلات الجريمة في الأردن، كذلك، ارتفاعاً في نسب الجريمة بل أبرزت تراجعاً بها، فعدد جرائم القتل العمد في عام 2013 كاننت 74، قياساً بـ82 في 2012، و87 جريمة في 2011، ونسبتها لم تكن أفضل قبل عام 2006، أي فترة تطبيق عقوبة الإعدام وقبل تجميدها، وعليه تتهاوى نظرية الردع أمام الأرقام الرسمية.
والأهم أن قرار تجميد عقوبة الإعدام صادر من أعلى المستويات، ويعبر عن موقف وإرادة الدولة تجاه إلغاء العقوبة، ليستمر التجميد تسعة أعوام تقريباً، ولم يكن ذلك بسبب إجراءات بيروقراطية طبعاً، وعليه فإن الجناة المحكوم عليهم بالإعدام قد استحقوا "حقاً" مكتسباً من خلال قرار تجميد العقوبة، ولا ينبغي العدول عنه، بمعنى أن أي قرار لاستئناف العقوبة - رغم مخالفتي الشديدة له - يمكن أن يطبق على حالات جديدة بعد صدوره، وإلا اعتبر أن المحكومين بالإعدام قد مورس عليهم عقوبتين؛ السجن سنوات عدة والإعدام، وهو ما يعد مخالفة لمبدأ عدم تكرار العقوبة.
اتهام البعض أن إيقاف العقوبة يعدّ إفلاتاً من العقاب هو بحد ذاته افتراء، فالمطلوب هو إلغاء "الإعدام" واستبدالها بعقوبة أخرى قد تكون المؤبد مثلاً، وهذا سيحقق العدالة ويفتح فرصة للإصلاح والتوبة، ويكون فرصة لتطبيق برامج إصلاحية داخل مراكز الإصلاح والتأهيل، التي نالت اسمها من أجل الإصلاح الجنائي لا التجميل.
آخرون رفضوا الإلغاء تطبيقاً للشريعة الإسلامية، وعند العودة إلى الفلسفة التشريعية الأردنية، وباستثناء ما يتعلق بالأحوال الشخصية، فإن التشريعات الوطنية هي وضعية، فلا ينبغي إقحام الشرع مبرراً لتطبيق العقوبة دون سواها من المسائل الأخرى، التي لا يتم الاستناد بها إلى الشريعة، ناهيك أنه يمكن فتح نقاش حقيقي حول تطبيق العقوبة في الشرع الإسلامي من حيث اختلاف الظروف وإمكانية التأويل ودلالات مفردة "القصاص" ومعانيها المتعددة والمختلفة، فمقصد الشرع هو إصلاح المجتمع عبر العفو والتوبة، لا تطبيق القصاص بشكل مجردٍ، كما أن التوبة تتحقق للأحياء لا المعدومين، والأمر برمته يتطلب حواراً اجتماعياً ودينياً وليس تبرير العقوبة ضمن مرجعيات دينية بشكل غير دقيق.
ارتفاع الكلفة على الدولة في حال بقاء المحكومين في مراكز الإصلاح والتأهيل، اعتبره البعض مبرراً لتنفيذ العقوبة، رغم أن إحدى أهم مبررات إيجاد عقوبات بديلة للجرائم، التي طالبت بها منظمات حقوق الإنسان، هو تخفيف العبء المالي على الدولة، لكن هذه المطالب لم تلق اهتماماً، ولم يُذكر"العبء المالي" سوى من مؤيدي الإعدام لعدد من المحكومين هم 111 شخصاً، مقابل آلاف النزلاء في المراكز، على أن قيمة حياة الإنسان لا تقدر بالمال، وحضارة الشعوب تقدر بما تحمله من قيم ومدى محافظتها على حياة البشر.
مؤيدون للعقوبة أشاروا إلى رغبة المجتمع بما أسميه شهوة الثأر الاجتماعي لدى الجناة، أي شفاء غليل أهل الضحايا، وهي مسألة نسبية لأنها بالأساس أمر نفسي لا يمكن تحققه بكل الحالات حتى بالإعدام، ثم أنه ينفي الرغبة بإصلاح الجناة وإمكانية التوبة والعفو، وكما للضحايا أهل يتعذبون من جراء تعرض ابنهم للجريمة القاسية، فإن للجناة أهل ايضاً، وكلا الطرفين هم ضحايا أولاً وأخيراً.
ووصل الحد إلى اتهام المطالبين بإلغاء العقوبة بأن لهم أجندات سياسية خاصة، ومدفوعين من الخارج.. الخ، علما بأن هؤلاء المطالبين هم أردنيون يعملون بمنظمات حقوقية أردنية او عربية أو دولية، وأجندتهم معروفة مسبقاً، وهي مرجعية حقوق الإنسان الموجودة أصلا باتفاقيات حقوق الإنسان، التي صادق عليها الأردن عبر موافقة الحكومة، ثم البرلمان، ومصادقة جلالة الملك، فكيف يستقيم الاتهام ومطالبهم متأتية من التزام الأردن بالمصادقة على الاتفاقيات.
وأخيراً، وإزاء كل ما تقدم؛ فإن هذه العقوبة تعد قاسية ولا إنسانية ولا ينبغي الاستمرار بها، ويجب البحث عن وسائل عقابية تبتغي الإصلاح، فنهج "الإعدام الجماعي" غير مقبول ويؤشر على موقف سلبي تجاه حقوق الإنسان، ويضع الأردن مع مصاف دول لم تلغ عقوبة الإعدام، وسجلها سيئ في هذا المجال، إضافة إلى أن العمل على مجابهة التطرف والعنف المجتمعي يستدعي تعميق ثقافة التسامح واحترام حقوق الإنسان، وعلى منظمات المجتمع المدني والإعلاميين والمثقفيين وأساتذة الجامعات وغيرهم بذل المزيد من الجهود من أجل تغيير قرارات الدولة بهذا الأمر، وتوعية المجتمع بمعايير حقوق الإنسان بعيداً عن ما تتعرض له من تشويه.
رياض الصبح: باحث في مجال حقوق الإنسان