الإسلام "المعتدل" لا يمثل أحداً
أنوّه، ابتداءً، أنني عشت مثل البقية، في هذه المنطقة، على جملة شعاراتٍ رديئة الشكل والمضمون خاضت بها أنظمتنا حربها وسلمها، وخطط تنميتها الخمسية والعشرية، وسقطت جميعها على أرض الواقع رغم أنها ملأت الإعلام والجدران والآذان ردحاً من الزمن، وليست نبوءةً أن شعار "مواجهة التطرف بالإسلام المعتدل" سيلقى المصير ذاته.
خلال أقل من عامٍ واحدٍ، شهدت عمّان وحدها عشرات الفعاليات التي تزعم محاربة الإرهاب؛ مؤتمرات ومناظرات وندوات لم تنتج سوى ديباجة مكرورة يمكن لطلبةٍ في المرحلة الأساسية صياغتها بتنويعات مختلفة تراعي طبيعة المشاركين، والأهداف المنشودة من اللقاء، وتركّز على "الوسطية والاعتدال" بما لا يُفسد التحالفات السياسية القائمة، ويسترضي الجهات الممولة في آن.
ما هو الإسلام الوسطي والمعتدل؟ كل إجابةٍ عن هذا السؤال –مهما زعُم صاحبها النزاهة- هي مرتهنة لسلطة نصٍ أو جهة دينيةٍ أو سياسيةٍ بعينها، فلا تقف حدود الاختلاف بين السنة والشيعة، السلفية والأشاعرة، الصوفية والحنبلية وغيرها عند تبادل الاتهامات بالتطرف والاعتدال، بل يتجاوزه إلى تكفير كل طرفٍ الآخر مثلما حدث ويحدث خلال الألف سنة الماضية.
ليس هناك من مرجعية واحدة يمكنها احتكار تمثيل هذا "الاعتدال"، بل ثمة إصرار متعمد على اجترار أفكار سطحية وركيكة ومتشددة تخص المؤسسة الدينية الرسمية ورجال دين تقليديين وتصويرها بمظهر الفكر "المعتدل"، مقابل حجب ما يليق بكل صاحب عقلٍ، ومنها أطروحات محمد أركون، ونصر حامد أبو زيد، وعبدالله العلايلي، وعلي شريعتي وغيرهم.
كل هذه الجلبة في عمّان، ولم يخطر ببال المسؤولين، في هذه المرحلة تحديداً، استعادة المفكر الأردني فهمي جدعان، حيث يدرّس حالياً في إحدى الجامعات خارج البلاد، والتعامل معه ومع أمثاله بما يليق بمكانتهم، لا مجرد موظفين كما حصل في تجارب سابقة خسرنا خلالها مثقفين حقيقيين سواء قبِلوا هم بتدجينهم أو غادروا أوطانهم بحثاً عن كرامة وحياة.
لا يملّ المنظمون، عادةً، كما في المؤتمر الدولي "دور الوسطية في مواجهة الإرهاب"، المنعقد حالياً في الأردن، تكرار عبارة "تصحيح المفاهيم الخاطئة التي شوّهت الدين الإسلامي على مرّ العصور"، وكلما سمعتها تمنيت أن تحدد هذه المفاهيم "الخاطئة" بوضوحٍ وبلا مواربة، لا إبقائها مقولة ملتبسة تقال لتبرير كل ما يعجزون عن تفسيره من جرائم تقع باسم الدين.
ويتواصل الخطاب التبريري بالتأكيد على بديهيات لا ينكرها عاقل كالقول إن "التطرف ظاهرة عالمية ليست خاصة بالمسلمين"، والرد على هؤلاء بمنتهى البساطة والهدوء بأن الدفاع عن مسلمي بورما في وجه التطرف البوذي - مثلاً- هو مسألة حقوقية وسياسية لا صلة لرجال الدين المسلمين بها، وبخلاف ذلك ينتفي مفهوم السيادة والدولة، وعلينا أن نقبل تدخلاً غربياً بذريعة حماية العرب المسيحيين في بلادنا.
وفوق ذلك كلّه، يحق لنا التساؤل عن سبب تدخل السعودية لصالح مسلمين في بقعة ما في العالم ودعمهم بالمال والسلاح وتدشين حملات دولية كبرى تؤيد انقسامهم وتأسيسهم دولاً خاصة بهم، في حين تتركهم يُقتلون في بلد آخر من دون أن يرفّ لها جفن!
يغيب عنا أن القضية الأساسية التي يجب أن تطرح علينا بوصفنا بشراً نقطن هذه الجغرافيا في هذه الحقبة التاريخية لا تخص هذه المؤتمرات والمؤتمرين جميعاً وهم غير قادرين ومؤهلين لنقاشها، وتتمثل بنهضة فكرية اجتماعية تقوم على تحرير العقل من مسلمات تخدم سلطة المقدس والوصاية بكل أشكالها التي شوهت الإنسان في بلادنا، وحكمته مُهان العقل والكرامة دهوراً.
ماذا يعمل 95 ألف عالم دين بتصنيف الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وأين كانوا طوال العقود الماضية، ولماذا هبّوا مع آلاف غيرهم من "العلماء"، تعترف بهم جهات دينية أخرى، فجأة للتنظير حول الإرهاب؟ فلو كان لديهم ما يفيدنا من علمٍ لما عشنا كل هذا الانحطاط والتخلف، ولو قيّض لنا ربع عددهم في مجال العلوم الطبيعية والإنسانية لشهدنا تطوراً حضارياً يغنينا عنهم.
احتفالات مجانية لمواجهة التطرف من المحيط إلى الخليج، ويستمر الضحك على الذقون وآخر حلقاته إعلان معرض الرياض للكتاب احتضانه 146 كتاباً عن الإرهاب في دورته الأخيرة التي انطلقت منذ أيام، ما اعتبرته الصحافة السعودية "حرباً فكرية وثقافية على تنظيم داعش"، وهي بحد ذاتها مفارقة تستحق الالتفات!
الإسلام "المعتدل" شعار أجوف لن يقود إلى التغيير مع ثبات بنية السلطة العربية التي توّظف مشايخها من أجل أهداف لا تخدم مجتمعنا، إنما لإعفائها من المسؤولية عن خطاياها السابقة وتجديد الولاء لها بتأبيد فسادها وعجزها.
- محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.