الأردن: اعلان الملك تسجيل أرض باسمه يفتح باب مساءلة مسؤولين حاليين وسابقين
بعد سنوات من الصمت، باشر مجلس النواب الأردني فتح ملفات أراض للدولة نقلت ملكيتها الى متنفذين، بعد أسبوع على كشف الديوان الملكي تفاصيل تسجيل أراض تعود الى الخزينة باسم الملك عبدالله الثاني بين عامي 2000 و 2003، لتسهيل استخدامها في مشاريع تنموية وخدمية ملحّة
فقد قرر مجلس النواب يوم الأحد الفائت تشكيل لجنة تحقيق للتدقيق في سجلات دائرة الأراضي حول تسجيل وحدات بأسماء مسؤولين أو شركات استثمارية، على أن تقدم تقريرها النهائي خلال شهر. ويتوقع أن يفتح هذا الإجراء صندوق عجائب لن يغلق من دون مساءلة جميع من يثبت تورطهم.
مطالبة النواب بتطبيق قانون «من أين لك هذا» تستهدف محاسبة مهندسي نهج سابق، ما قد يضع مسؤولين سابقين خدموا في مناصب وزارية، وأمنية وعسكرية تحت مطرقة المساءلة والمحاسبة القضائية.
قبلها بساعات، طلب الملك بوضوح من 17 مسؤولاً يمثلون مؤسسات الرقابة على المال العام، من بينهم رئيس الوزراء، ورئيسا مجلسي الأعيان والنواب، والسلطة القضائية والمؤسسات الرقابية، العمل الجاد لتحقيق العدالة للجميع وتحويل الفاسدين إلى القضاء من دون أي تردد أو محاباة.
وقال: «إن المواطن تعب من الكلام والشعارات ويريد أن يتأكد من أن حقوقه محفوظة ويريد كذلك محاسبة الفاسدين والمهملين وأن علاقة المواطن بمؤسسات الدولة قائمة على مبدأ العدالة وتكافؤ الفرص». وطالبهم بوضع ميثاق أو آلية لتعزيز منظومة النزاهة الوطنية.
اقتنع الملك والبرلمان والحكومة أخيراً بضرورة طي صفحة شبهات الفساد على رغم إدراكهم صعوبة محاصرة تداعيات مهمة كهذه من دون المس بهيبة الدولة المتآكلة ومركز رموزها الأخلاقي، في بلد ينص دستوره على أن رأس الدولة مصون من كل تبعة ومسؤولية.
ولم يعد هناك مجال للمراوحة والدوران في حلقة مفرغة وسط استمرار حال من الشكك في كل خطوة الى ان ينجلي ملف الفساد.
صحيح أن أوامر الملك الخطية والشفوية لا تعفي الوزراء من مسؤوليتهم، لكن قانونيين يرون أن رأس الدولة قد يتحمل جزءاً من المسؤولية على تجاوزات محتملة باعتباره صاحب صلاحية اختيار رؤساء الحكومات، وأركان الدولة ورجال الديوان الملكي. ويبدو أنه مستعد لذلك.
يرحب مسؤول سابق كبير عمل مع الملك لسنوات بصراحة رأس الدولة. ويشدد على أنه لا يشعر بأن العاهل الاردني يتحرك من منطلق ضعف، بخلاف الانطباعات السائدة.
«فالملك ليس لديه شيء يخفيه وعليه ان يكون صريحاً لتبيان الخيط الأسود من الابيض. فالهاشميون يكاشفون الناس دائماً لأنهم قريبون من نبضهم ولا يعيشون في أبراج عاجية». وتذكر السياسي كيف قام والده الراحل الحسين بن طلال بمكاشفة شعبه قبل أكثر من عقدين عندما قال إن السلطان قابوس بن سعيد تكفل ببناء قصر بيت الأردن بأكثر من عشرة ملايين دولار.
ووفق هذا المسؤول، «لو اراد الملك عبدالله الثاني ان يتاجر بتلك الاراضي التي نقلت ملكيتها اليه لكشفه الجميع لأن أكثر شيء يفهمه الشعب الأردني هو الطابو وبيع الاراضي وشراؤها».
الرأي العام سيتابع مداولات اللجنة النيابية التي قد تساهم في استعادة هيبة مجلس النواب وصدقيته عقب شبهات التزوير التي طاولت الانتخابات التشريعية التي أفرزته عام 2010 وتلك التي وقعت عام 2007. ولن يقبل بأن تتعامل المؤسسة الرسمية بانتقائية أو انتقامية مع المتسببين المحتملين عن قصد أو من دون قصد ووفق نصوص الدستور والقانون.
فالمكاشفات الملكية أشعلت جدلاً شعبياً، سياسياً ونخبوياً لن يهدأ من دون استعادة ما يعتبرها رجل الشارع أموالا نهبت من الخزينة العامة بعد أن تلاعب مسؤولون بمقدرات الدولة، وساهموا في تردي أوضاع الشعب المعيشية لمصلحة فئة مستفيدة.
الرأي العام منشغل منذ أن «كشف» الديوان الملكي، بأمر من الملك شخصياً، تفاصيل تسجيل 4827 دونماً من الأراضي الحكومية باسمه. القرار الملكي، وفق رجال القصر، يستهدف وضع حد للإشاعات واللغط الذي طاول شخص الملك لسنوات في المجالس الخاصة قبل أن يخرج إلى العلن عبر عشرات المسيرات كل يوم جمعة منذ هبوب رياح التغيير العربي.
وهم يصرون على أن هذه المكاشفة ليست استثنائية، بل جزء من منهجية عمل الفترة المقبلة. «سيكون هناك توضيح ورد على ما يثار في الصالونات السياسية، والأروقة والمعارضين» كما يوضح أحد المسؤولين في القصر.
وبعد ما سمّاه «تحرياً وتقصياً للمعلومات»، حصر البيان الملكي المطول الفترة التي نقلت فيها هذه الأراضي إلى ملكيته بين عامي 2000 و 2003، فترة تولي المهندس علي ابو الراغب رئاسة الوزراء. وشدد البيان المفاجئ على أنه لم يبع أي متر من تلك القطع، «ولن يتم بيع اي متر مستقبلاً» وأن بقية الأراضي في طريقها للتخصيص ضمن إقامة مشاريع تنموية. لكن بيان الديوان الذي يسعي الى تجديد شرعية الدولة في زمن التغيرات العربية، لم يشف غليل الكثير ممن يتابعون قضايا شبهات فساد أرهقت شرعية الدولة خلال السنوات الماضية. والأمل اليوم أن ينسحب جهد التوضيح الذي سنّه رأس الدولة على كبار المسؤولين، السابقين والحاليين، حتى يكشفوا مصادر أموالهم التي حصلوا عليها، وذلك من خلال تطبيق قانون من أين لك هذا.
الإعلام المحلي، العام والخاص، وبعض الأحزاب الوسطية رحبت بالمبادرة الملكية. وهلل المعلقون والكتاب لهذا الإجراء غير المسبوق في مقالاتهم وتصريحاتهم.
تبع ذلك بيان عن مجلس النواب أعلن رفضه اتهام الملك «بتسجيل أراض للدولة باسمه»، وكذلك رفض «لغة التشكيك واغتيال الشخصية والاتهام من دون أدلة». ثم صدر بيان عن مجلس الأعيان يثمّن شفافية القصر ويطالب بتعزيز مفهوم النزاهة في دولة المؤسسات.
في مقابل ذلك، صدرت مواقف منتقدة عن أحزاب المعارضة بقيادة الإسلاميين، والنقابات، وشخصيات سياسية، ومعارضين مخضرمين مثل ليث شبيلات وتوجان الفيصل اللذين كانا أول من دقّا ناقوس الخطر قبل سنوات ضد المس بأراضي الخزينة، وتعرضا لاحقاً لملاحقات قضائية.
ورأى النائب السابق شبيلات أن بيان الديوان الملكي «اعتداء على الولاية العامة». وتابع: «مجلس الوزراء هو وحده صاحب الولاية وهو من يقرر نقل ملكية هذه الأراضي».
ووصف زكي بني أرشيد، القيادي في حزب جبهة العمل الإسلامي – الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين بيان الديوان بأنه «نوع من التضليل للرأي العام... لأن كل الأرقام التي ذكرها البيان وكل المبررات التي ساقها غير مقنعة ومعقولة وكأننا لا نعيش في دولة قانون ومؤسسات».
كما انتقدت البيان الملكي شخصيات رسمية حالية لجهة توقيته – معتبرين أنه كان يفترض إعلانه وقتها لا أن يأتي كرد فعل على حراك الشارع – وأيضاً طريقة الإخراج والمعالجة الإعلامية التي لم تركز إلا على الايجابيات وتعظيم المنفعة.
وتوقف رجال قانون وفقه دستوري عند حيثيات قانونية متعلقة بطريقة تناول ملف أراضي الخزينة وأكدوا عدم دستورية الإجراءات، بما فيها طلب الديوان الملكي من دائرة الأراضي والمساحة تسمية مندوب منها للعمل من الديوان خلال ذروة نقل الأراضي التي روّج لها مسؤولون وحصلت على فتاوى تشريعية ضمنية من باب ضرورات تسريع اجراءات البيروقراطية وتحفيز الاستثمار.
واستمر تشكيك بعضهم في دقة الرواية الرسمية، لافتين إلى أن الأرقام تتجاوز ما أعلن عنه، كما أن أراضي أخرى سجلت ملكيتها لحساب متنفعين ومتنفذين في الدولة. ويقول مسؤول حالي كبير لـ«الحياة» إن قرار المكاشفة وضع الجميع ضمن إطار المساءلة الشعبية، بمن فيهم رأس الدولة وأفراد العائلة المالكة»، ليس فقط في قضية الأراضي بل في أي ملف إشكالي قد يطرحه الحراك الشعبي لاحقاً، مثل مشروع العبدلي وعمليات الخصخصة التي بدأت عام 1988 خصوصاً بيع شركة الفوسفات – أكبر مورد للنقد الأجنبي.
ويقول إن مسؤولي الديوان استخدموا القناة الرسمية الخاطئة لمكاشفة الملك. «كان من الأفضل لو قام رئيس الحكومة بصفته صاحب الولاية العامة، بالإدلاء ببيان أمام مجلس النواب يتحدث فيه عن ملف الأراضي التي سجلت باسم الملك» ليطلب بعدها من رؤساء الوزارات المعنيين توضيح حيثيات ما حصل بدلاً من إقحام الملك في جدل علني».
كما أن طريقة العرض والمعلومات – أمام رؤساء التحرير وكتاب الأعمدة - كانت ناقصة في بعض الجوانب، ما رفع مستوى التساؤلات الشعبية. وقد يستدعي ذلك فتح الباب أمام مزيد من الشروح بناء على حراك الشارع الذي لم يتوقف بعد الإعلان الملكي من خلال عشرات المسيرات التي انطلقت الجمعة الفائتة في المملكة. يقول مسؤول آخر: «لكي تعود الأمور إلى سياقها الصحيح، يجب إعادة كل الأراضي التي سجلت باسم الملك أو الأمراء إلى خزينة الدولة. ومن يريد من الجهات المسموح لها بطلب تخصيص أراض وفق احتياجاتها الخدمية والتنموية أن يطلب ذلك وفق الأطر القانونية والدستورية».
وتساءل: «لماذا قرروا تغيير آلية ثبت نجاحها في السابق»؟ وكذلك تساءل آخرون: «لماذا لم يذكر بيان الديوان بالاسم المشاريع التنموية والخدمية والجمعيات الخيرية التي استفادت من نقل ملكية أراضي الدولة»؟ كذلك، لماذا لم يتحدث الديوان ويبرر أهداف تلك الصفقات عندما نفذت قبل قرابة عشر سنوات؟ و «هل سيحاسب مسؤولو الديوان والحكومة حينها ممن أقحم الملك في مشاريع خارج إطار الحكومة بعد اختراع آلية جديدة لنقل ملكية أراضي الخزينة» من الحكومة الى رأس الدولة.
يأمل مسؤولون بأن تشكل المكاشفة الملكية ومحاولة المجلس النيابي تفعيل دوره الرقابي المفقود منذ سنوات بداية لوقف تراجع هيبة الدولة واستعادة بعض الاموال العامة التي اخذت من دون وجه حق. لكن لا بد من ان يكون ذلك ضمن استراتيجية قائمة على تنفيذ إصلاحات سياسية حقيقية تفضي الى انتخابات تشريعية نهاية العام المقبل وتشكيل حكومة مدعومة برلمانياً يستعيد رئيسها ما تبقى من الولاية العامة ويعفي الملك من مسؤولية فــشل سياسات الحكومات. «فلعبة شراء الوقت التي مارستها كل الانظمة العربية خلال العقود الماضية بهدف المحافظة على الوضع لم تعد تجدي نفعاً»، كما يرى ناشط حزبي.
الحياة