الأردنيون في الهامش
يصرّ المشتغلون في الشأن العام (داخل النظام وخارجه) على مقاربة تقليدية لأيّ “خلل” يصيب المجتمع الأردني أو إحدى فئاته، ويؤدّي إلى سلوك “عنفي” أو خروج عن المألوف، وبمجرّد السيطرة على تداعياته الظاهرة، يركن الجميع مجدّداً إلى “نجاعة” حكمتهم السياسية وتدابيرهم الأمنية.
بعيداً عن التشكيك بنوايا حملات المقاطعة الأخيرة لعدد من السلع والخدمات التي ارتفعت أسعارها، أو الحماسة إليها لمواجهة التخبط الرسمي في إدارة عجزه المزمن، فإنه يُمكن تصنيفها ضمن حراك الهامش الذي ستتطوّر أدوات تعبيره بغض النظر عن تحقيق أهداف كل حملة على حدة، أو قدرة “أجهزة” عديدة على اختراقها أو التلاعب في مخرجاتها.
منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، قاد مسار "التصحيح الاقتصادي" إلى إفقار فئات متعدّدة في المجتمع وتجهيلها وتهميشها، ورافق ذلك تغوّل أجهزة النظام في الإمساك بإدارة الدولة والمجتمع، فاشتدت قبضتها رغم إلغاء الأحكام العرفية والدخول ظاهرياً بمرحلة “الانفراج الديمقراطي”.
ثلاثة هوامش أساسية يتحرّك الأردنيون بينها؛ الهامش السياسي حيت لم تعد تمتلك جميع القوى في المعارضة والحكم تمثيلاً حقيقياً أو إرادة مستقلة وفعالية نحو التغيير، ما خلق شخصيات نافذة لا حضور شعبياً لها، يجري الاستغناء عنها وتبديلها دون عناء يذكر.
المهمّشون في السلطة يشكّلون السواد الأعظم من الأردنيين، حتى وإن توّهم البعض أنه يتمتّع بميزة إضافية أو أنه يعاني مظلمة استثنائية، ويكفي مراقبة نتائج الانتخابات البرلمانية في جميع الدورات السابقة، لنتأكد من أن “القرب” من السلطة أو الانتماء إلى “البزنس السياسي”، أو وجود ثقل عشائري “مرضي عنه” يضمن وصول غالبية النواب الذين بالكاد يمثّلون “الماكينة” التي دعمتهم.
في الهامش الاقتصادي يبدو المشهد مرعباً في بلد يغيب فيها الإطار النقابي المنظّم لمعظم قطاعاته، وربما لم يعد مفاجئاً الحديث عن مئات الآلاف ممن يعملون في نشاطات اقتصادية غير مقنّنة وغير منظّمة بدءاً من أصحاب البسطات وعمّال الفاليه وحرّاس البنايات والسماسرة و”الكونترولية” والباعة المتجوّلين والمتسوّلين و”الموّظفين المؤقتين” في المحلات والورش الصغيرة والسكرتاريا وبعض خدم المنازل ومعلمي الدروس الخصوصية و”متابعي المعاملات” أمام الدوائر الرسمية، ومروراً بالمعطّلين عن العمل والعاملين الذين يُحرمون من الضمان الاجتماعي مثل سائقي التاكسي والعمّال المخالفين وغيرهم، وصولاً إلى الاقتصاد الأسود في الدعارة والمخدرات والسلاح والتهريب الذي يعمل به أناس بقوت يومهم لدى كبار مالكيه.
لا تقديرات لأعداد المهمّشين وحجم تداولهم النقدي وحدوده، ويشترك أغلب هؤلاء المواطنين الذين قدِموا من مخيماتهم وقراهم وبواديهم، واللاجئون السوريون وغيرهم، في انخفاض متصاعد لمداخيلهم الشهرية، وبأنهم غير فاعلين في مناطق سكناهم المستحدثة، وبالضرورة فإن قدرتهم على التفاعل والتأثير في أماكن تولدهم ونشأتهم قد انتفت.
الهامش الأخير قد يبدو الأخطر، فهو يتعلّق بالمعرفة التي يفرض فقدها أو تشوّهها تحوّلات خفية في الأنماط المعيشية والسلوكية والروحية والثقافية، ويشمل ذلك الحرمان من حق الحصول على المعلومة وتداولها ضمن الأطر الرسمية، فيلجأ الفرد إلى وسائط اتصال وتواصل موازية، أو عبر تضليله والتشويش عليه سواء بتغييب المنهج العلمي في كثير مما يقدّم في المدرسة والجامعة أو ما تفرزه “المناهج الخفية” على يد مدّرسين لا يؤمنون بالمنهاج المقرّر، ويضاف إلى ذلك جيش الدعاة وبعض مذيعي البث المباشر وكتّاب الأعمدة وسواهم.
ينشغل العقل الرسمي في رصد هذا الحراك في بعده الأمني، غالباً، وارتباطاته بملف “الإرهاب”، متجاهلاً الممارسات المشتركة لكل هؤلاء، رغم عدم توجيهها بأيديولوجيا أو قادة أو تنظيمات، وإلى انتشارها الهادئ في طور تعبيرها عن مطالب فردية، لكنها حين تنحو للمطالبة بمصالح جماعية، فإنها لا تأبه بعقاب السلطة، كما يتضح في رصد مواجهاتها معها خلال العقدين الأخيرين في الأردن.
هوامش الأردنيين في اتساع مضطرد تحكمها عوامل عدّة؛ من بينها: ارتفاع أعداد المنتمين إليها، وبالتالي تنامي الاقتصاد الهامشي (والخفي أحياناً) الذي ينظّم عمل الألوف منهم، وتكرار حالات العنف لدى أفرادها على نحو صادم في شكلها ومضمونها بما يتجاوز فكرة الصراع من أجل البقاء، ليغدو من الصعب التنبؤ بمساراتها وبالقادم من أحداث.
محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.