إنهم رُحل راحلون..!

إنهم رُحل راحلون..!

إعتدنا بالطبع أن نسمي منطقتنا بـ"الوطن العربي الكبير"، ولكن هذا وصف أيدولوجي وليس جغرافي، لذا كان من السهل أن تنحاز وسائل الإعلام (بما فيها العربية) لمسمى "الشرق الأوسط" رغم أنه جاء محمولاً على خطط إدماج "إسرائيل" في المنطقة.

وهي خطط تلجأ، اليوم، إلى تركيز الوعي على الوطنيات المحلية!

بالنسبة للروس، اسم المنطقة ثابت من قديم، ويحمل هواجسهم: "الشرق الأدنى"، أو "الشرق القريب"، وهو الإسم الذي ينبهنا إلى أننا جزء بسيط من الشرق الممتد في آسيا وفي أعماق التاريخ، ويتضمن موطن أعرق الحضارت: الصين والهند..

"الشرق الأدنى" أو "القريب"..!

ويا إلهي، كم يصدق إحساسي البديهي حينما اصطدمت بهذه الكلمات بملفوظها الروسي، أول مرة. إنها تحمل تنبيهاً، وتزعق من خلالها صفارة إنذار، تجاه ثغرة، وخاصرة لينة، وبوابة لعبور الخطر تجاه روسيا.

لهذا، ومن هذا، يهتم ويحفل الروس بهذا "الشرق القريب"..!

وهو مفهوم يخص بلاد الشام تحديداً، أو ما يسمى بشرق المتوسط، بينما الإشارة إلى العالم العربي المنعكسة في تقسيمات وزارة الخارجية الروسية تأخذ اسماً اصطلاحياً مركباً، هو: "الشرق الأدنى وشمال إفريقيا" .

والمهارة البديهية للمختصين بهذا المجال، هي إجادة بالعربية!

ولا يثير مفهوم "الشرق الدنى" لدى الناطق باللغة الروسية إشارات تركية. إنه يدل على ذلك الجزء الشرقي الشمالي من وطننا العربي. أما تركيا، فيعرفها الروس ببداياتها العثمانية، ويتذكرون أنها بدأت وتأسست بالعثمانية، وأن تركيا في جوهرها ستظل كذلك..

ويعرفون أن العثمانية تظل مرضاً وراثياً يصيب الأتراك بين الفينة والأخرى!

وقد يكون الروس هم أول من تعامل مع "العثمانية" كمفهوم ونزعة إمبراطورية قروسطوية فاشية، مدفوعة بضرورات تأسيس أمة، واكتساب شرعية ثقافية (السنية الإسلامية)، وإن احباطات تأسيس الأمة في محيط غريب سيحكم تركيا بالتراوح ما بين فكرة الدولة المتقدمة وأوهام الإمبراطورية المتغطرسة!

وان تركيا ستتصرف، بين فينة واخرى، بطريقة تلقي بها إلى التهلكة!

التهلكة الموجودة بين النزعتين السابقتين، ومثاله الانحطاط العقلي البراق الذي جاء به رجب طيب أردوغان وعبد الله غول، اللذين خانا أستاذهما نجم الدين أربكان وعادا من زيارة للولايات المتحدة ليتسلما السلطة في تركيا، مع تفويض كامل بتتصفية النفوذ التاريخي للجيش الأتاتوركي..

هو ذاته، الإنحطاط العقلي الذي عبر عنه أوغلو بنظريته المزعومة: صفر مشاكل!

ونتذكر نحن أن "التركية" هي قومية محتلة. هيمنت عليها قبائل الغز التي تدافعت مع موجات المغول التي غزت المنطقة من أقاصي آسيا، وعلقت على الجسر الذي يصل القارتين العجوزين (آسيا أوروبا)، بعضهما ببعض.

هل أنت تركي أم عثماني..؟

إنه ذات الإحتلال. وقصة كاتدرائية آيا صوفيا "سان صوفيا،" (ويا لها من قصة تصف ارتدادات الوعي الاسلامي نحو اليهودية، وحالياً انحدار الوعي العربي نحو الـ"إسرائيلـ"ـية)، التي تحول مبناها إلى جامع، وسرق الأتراك لاحقاً معمارها الفريد ليكون نمطاً لمعمار المساجد الإسلامية في تركيا، هو نفسه، والنمط ذاته، الذي يصف استيلاء تلك القبائل (لاحقاً) على المنطقة (الأرض)، وطريقتها في صبغ الشعب بهويتها، ومنحه اسماً آخر..

وأسلوبها في تحويل الشعب المستقر إلى شعب رحالة..!

فالقبائل المترحلة، استقرت في الأرض الراضية بوقوعها على حافة قارتين. استقرت وحولت الوطن القديم إلى محطة انتظار للعبور إلى القارة الأوروبية، ومحاولة الانتماء إلى ثقافتها، والإندماج فيها، وتقمصها بالكامل..

وهناك الروس العائشين في قارتين يواجهون نفس المعضلة الإنتمائية!

ولكنهم على خلاف العثمانيين لا يرتاحون لفكرة الارتحال والانتساب التعسفي إلى قارة دون غيرها، بل يحاولون اختراع قارة تختص بهم، وتتميز بثقافتهم، وتنطق بلغتهم، وتنتسب إليهم ولكل الشعوب "الروسية"..!

نعم. التحايل على الجغرافيا أهون من التحايل على الثقافة والهوية!

(بالمناسبة: هذه تنويهات تقدم لكلام لاحق)

أضف تعليقك